للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي اليوم الخامس من مرضه صلّى الله عليه وسلّم اشتدت عليه الحمى فطلب أن يصبّوا عليه الماء، حتى يخرج للناس فيعهد إليهم، وبعد أن استحم أحس بخفة، فعصب رأسه ودخل المسجد فصعد المنبر وخطب فنهى عن اتخاذ قبره وثنا يعبد «١» ، ولعن اليهود والنصارى لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد «٢» ، وعرض نفسه للقصاص، وأوصى بالأنصار خيرا، وفي نهاية خطبته قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ عبدا خيّره الله بين الدّنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله» . «٣»

وقد اشتد بكاء أبي بكر (رضي الله عنه) فعجب الناس من ذلك، فكان المخير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان أبو بكر أعلمهم بذلك، وأثنى النبي على أبي بكر صحبته، وما أنفق في سبيل الله ونصرة الإسلام فقال: «لو كنت متّخذا خليلا عند ربّي لاتّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته» ، وأمر صلّى الله عليه وسلّم بألا يبقى في المسجد باب إلّا سدّ، إلا باب أبي بكر. «٤»

وقبل وفاته صلّى الله عليه وسلّم بأربعة أيام أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، كما أمر صلّى الله عليه وسلّم بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم «٥» ، وحين اشتد وجعه ذلك اليوم قال للصحابة الذين كانوا معه: «هلمّوا اكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده» فاختلفوا وقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : «قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا عنّي» . «٦»

وفي اليوم التالي أثر عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أحسنوا الظّنّ بالله عزّ وجلّ» . «٧»

وقد أثقله بعد ذلك المرض، ومنعه من الخروج للصلاة بالناس، فقال: «مروا أبا بكر أن يصلّي بالنّاس» ، وقد راجعته عائشة- رضي الله عنها- فقالت: «إن أبا بكر رجل رقيق ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن» فأصرّ صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، فمضى أبو بكر يصلي بهم «٨» ، وحين شعر النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك بتحسن، وخرج لصلاة الظهر وهو يتوكأ على رجلين رآه أبو بكر فأراد أن يتأخر، فأومأ إليه ألّا يتأخر، فأجلسه بجانبه، فجعل أبو بكر- رضي الله


(١) البخاري- الصحيح (فتح الباري، الأحاديث ٤٢٥، ٤٣٦، ٤٣٧) مسلم ١٠/ ٤٧٥٦ (حديث ٥٢٩، ٥٣٢) ، مالك- الموطأ ص/ ٣٦٠.
(٢) مالك- الموطأ ص/ ٣٦٥، البيهقي- دلائل النبوة (٧/ ١٦٩- ١٨٠) .
(٣) البخاري- الصحيح (فتح الباري، الأحاديث ٤٤٣١- ٤٤٣٢) ، مسلم ٣/ ١٢٥٧- ٥٩، (الحديث ١٦٣٧) .
(٤) البخاري- الصحيح (فتح الباري الحديث ٤٤٣٢) مسلم- الصحيح (الحديث ١٦٣٧) .
(٥) الذهبي- السيرة ص/ ٥٥٧، ابن ماجه- صحيح ابن ماجه للألباني ١/ ٢٧١، كتاب الجنائز (حديث ١٦٢٥) وقال: صحيح، وصححه الهيثمي- مجمع الزوائد ٤/ ٢٣٧.
(٦) هناك قرائن تشير إلى أن أمره صلّى الله عليه وسلّم بإحضار أدوات الكتابة لم تكن على الوجوب وإنما فيه تخيير، فلما قال عمر مقولته لم يكرر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، ولو كان الأمر لازما لأوصاهم به، وانظر البخاري- الصحيح (فتح الباري ٨/ ١٣٢) .
(٧) الذهبي- السيرة ص/ ٥٥٧ وقال إنه حديث صحيح من العوالي.
(٨) أحمد- الفتح الرباني ٢١/ ٢٢٦- ٢٢٧ من طريق ابن إسحاق ورجاله ثقات، أبو داود- السنن، ٥/ ٤٧- ٤٨، ابن كثير- البداية ٥/ ٢٣٢- ٢٣٣.