للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

للدّافع أن يدفعها إليه كما كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول «إنّي لأعطي أحدهم العطيّة فيخرج بها يتأبّطها نارا» قيل:

يا رسول الله فلم تعطهم؟ قال «يأبون إلّا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل» «١» .

ومثل ذلك مثل من أسرّ خبرا، أو كان ظالما للنّاس، فأعطاه هؤلاء (كي يمتنع من نشر السّرّ أو من الظّلم) فهذا جائز للمعطي حرام على الآخذ، أمّا الهديّة في الشّفاعة كأن يشفع لرجل عند وليّ أمر ليرفع عنه مظلمة أو يوصل إليه حقّه أو يولّيه ولاية يستحقّها، أو يستخدمه في الجند المقاتلة- وهو مستحق لذلك، أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القرّاء أو النّسّاك أو غيرهم- وهو من أهل الاستحقاق، ونحو هذه الشّفاعة الّتي فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرّم. فهذه أيضا لا يجوز فيها قبول الهديّة. ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصّل به إلى أخذ حقّه أو دفع الظّلم عنه. هذا هو المنقول عن السّلف والأئمّة الأكابر، وقد رخّص بعض المتأخّرين من الفقهاء في ذلك وجعل هذا من باب الجعالة، وهذا مخالف للسّنّة وأقوال الصّحابة والأئمّة، وهو غلط لأنّ مثل هذا العمل هو من المصالح العامّة الّتي يكون القيام بها فرضا: إمّا على الأعيان وإمّا على الكفاية.

ومتى شرع أخذ الجعل على مثل هذا لزم أن تكون الولاية وإعطاء أموال الفيء والصّدقات وغيرها لمن يبذل في ذلك، ولزم (أيضا) أن يكون كفّ الظّلم عمّن يبذل في ذلك، والّذي لا يبذل لا يولّى ولا يعطى ولا يكفّ عنه الظّلم، وإن كان أحقّ وأنفع للمسلمين من هذا. ولمّا كانت المنفعة لعموم النّاس: أعني المسلمين.

فإنّه يجب أن يولّى في كلّ مرتبة أصلح من يقدر عليها وأن يرزق من رزق المقاتلة والأئمة والمؤذّنين، وأهل العلم الّذين هم أحقّ النّاس وأنفعهم للمسلمين، وهذا واجب على الإمام، وعلى الأمّة أن يعاونوه على ذلك فأخذ جعل من شخص معيّن على ذلك يفضي إلى أن تطلب هذه الأمور بعوض، ونفس طلب الولايات منهيّ عنه فكيف بالعوض؟ ولزم أنّ من كان ممكّنا فيها يولّى ويعطى وإن كان غيره أحقّ وأولى، بل يلزم على ذلك تولية الجاهل والفاسق والفاجر وترك العالم القادر، وأن يرزق في ديوان المقاتلة الفاسق والجبان العاجز عن القتال، ويترك العدل الشّجاع النّافع للمسلمين وفساد مثل هذا كبير «٢» .

وإذا أخذ وشفع لمن لا يستحقّ وغيره أولى، فليس له أن يأخذ ولا يشفع وتركهما خير، وإذا أخذ وشفع لمن هو الأحقّ الأولى، وترك من لا يستحقّ، فحينئذ ترك الشّفاعة والأخذ أضرّ من الشّفاعة لمن لا يستحقّ، ويقال لهذا الشّافع الّذى له الحاجة الّتي تقبل بها الشّفاعة: يجب عليك أن تكون ناصحا لله ورسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، وعليك أن تنصح المشفوع إليه فتبيّن له من يستحقّ الولاية والاستخدام والعطاء، ومن لا يستحقّ ذلك، وتنصح للمسلمين بفعل مثل


(١) انظر الحديث رقم (١) .
(٢) مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد ٣١ ص ٢٨٥.