للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حقّا فإنّه نبيّ. وقد كنت أعلم أنّه خارج، ولم أكن أظنّه منكم. ولو أنّي أعلم أنّي أخلص إليه، لأحببت لقاءه.

ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. وليبلغنّ ملكه ما تحت قدميّ. قال: ثمّ دعا بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «١» فقرأه. فإذا فيه «بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول الله إلى هرقل عظيم الرّوم، سلام على من اتّبع الهدى، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام «٢» أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، وإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين «٣» قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. (آل عمران/ ٦٤) » فلمّا فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللّغط «٤» . وأمر بنا فأخرجنا. قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة «٥» إنّه ليخافه ملك بني الأصفر «٦» . قال: فما زلت موقنا


(١) بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: في هذا الكتاب جمل من القواعد وأنواع من الفوائد منها: دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم. وهذا الدعاء واجب. والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم دعوة الإسلام. ومنها استحباب تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم وإن كان المبعوث إليه كافرا. ومنها التوقي في الكتابة واستعمال الورع فيها، فلا يفرّط ولا يفرط. ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إلى هرقل عظيم الروم، ولم يقل: ملك الروم، لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام. ولم يقل: إلى هرقل فقط. بل أتى بنوع من الملاطفة فقال: عظيم الروم. أي الذي يعظمونه ويقدمونه. وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام. فقال تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. وقال تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً. ومنها استحباب البلاغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة. ومنها البيان الواضح أن من كان سببا لضلالة، أو سبب منع من هداية كان آثما. لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين» . ومنها استحباب أما بعد في الخطب والمكاتبات.
(٢) بدعاية الإسلام: أي بدعوته، وهي كلمة التوحيد. وقال في الرواية الأخرى: أدعوك بداعية الاسلام وهي بمعنى الأولى. ومعناها الكلمة الداعية إلى الإسلام. قال القاضي: ويجوز أن تكون داعية هنا بمعنى دعوة، كما في قوله تعالى: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ. أي كشف.
(٣) الأريسيين: هكذا وقع في هذه الرواية الأولى، في مسلم: الأريسيين. وهو الأشهر في روايات الحديث وفي كتب أهل اللغة. وعلى هذا اختلف في ضبطه على أوجه: أحدها بياءين بعد السين. والثاني بياء واحدة بعد السين. وعلى هذين الوجهين الهمزة مفتوحة والراء مكسورة مخففة. والثالث: الإريسين، بكسر الهمزة وتشديد الراء وبياء واحدة بعد السين. ووقع في الرواية الثانية في مسلم، وفي أول صحيح البخاري: إثم اليريسيين، بياء مفتوحة في أوله وبياءين بعد السين. واختلفوا في المراد بهم على أقوال: أصحها وأشهرها أنهم الأكارون، أي الفلاحون والزراعون. ومعناه إن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون بانقيادك. ونبه بهؤلاء على جميع الرعايا لأنهم الأغلب، ولأنهم أسرع انقيادا. فاذا أسلم أسلموا، وإذا امتنع امتنعوا. وهذا القول هو الصحيح. الثاني أنهم اليهود والنصارى، وهم أتباع عبد الله بن أريس الذي تنسب إليه الأروسية من النصارى، ولهم مقالة في كتب المقالات. ويقال لهم: الأروسيون. الثالث أنهم الملوك الذين يقودون الناس إلى المذاهب الفاسدة ويأمرونهم بها.
(٤) اللغط: هو بفتح الغين وإسكانها، وهي الأصوات المختلطة.
(٥) لقد أمر أمر ابن أبي كبشة: أما أمر فبفتح الهمزة وكسر الميم، أي عظم. وأما قوله: ابن أبي كبشة، فقيل: هو رجل من خزاعة كان يعبد الشعرى، ولم يوافقه أحد من العرب في عبادتها. فشبهوا النبي صلّى الله عليه وسلّم به لمخالفته إياهم في دينهم، كما خالفهم ابن أبي كبشة.
(٦) بنو الأصفر: هم الروم.