للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المحفوظ أنّ خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحا بالحمد، وبيده صلّى الله عليه وسلّم لواء الحمد يوم القيامة، ولمّا يسجد بين يدي ربّه عزّ وجلّ للشّفاعة، ويؤذن له فيها يحمد ربّه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الّذي يغبطه به الأوّلون والآخرون، قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «١» .

ومن أحبّ الوقوف على معنى المقام المحمود، فليقف على ما ذكر سلف الأمّة من الصّحابة والتّابعين فيه في تفسير هذه السّورة كتفسير ابن أبي حاتم، وابن جرير، وعبد بن حميد، وغيرها من تفاسير السّلف.

وإذا قام في ذلك المقام، حمده حينئذ أهل الموقف كلّهم مسلمهم وكافرهم أوّلهم وآخرهم، وهو محمود صلّى الله عليه وسلّم بما ملأ الأرض من الهدى والإيمان والعلم النّافع، والعمل الصّالح، وفتح به القلوب، وكشف به الظّلمة عن أهل الأرض، واستنقذهم من أسر الشّيطان، ومن الشّرك بالله والكفر به والجهل به حتّى نال به أتباعه شرف الدّنيا والآخرة، فإنّ رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، فإنّهم كانوا بين عبّاد أوثان، وعبّاد صلبان، وعبّاد نيران، وعبّاد الكواكب، ومغضوب عليهم قد باؤوا بغضب من الله، وحيران لا يعرف ربّا يعبده، ولا بماذا يعبده، والنّاس يأكل بعضهم بعضا، من استحسن شيئا دعا إليه، وقاتل من خالفه، وليس في الأرض موضع قدم مشرق بنور الرّسالة، وقد نظر الله سبحانه حينئذ إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلّا بقايا على آثار من دين صحيح، فأغاث الله بها البلاد والعباد، وكشف به تلك الظّلم، وأحيا به الخليقة بعد الموت، فهدى به من الضّلالة، وعلّم به من الجهالة، وكثّر به بعد القلّة، وأعزّ به بعد الذّلّة، وأغنى به بعد العيلة، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا، فعرف النّاس ربّهم ومعبودهم، غاية ما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، وأبدأ وأعاد، واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله حتّى تجلّت معرفته سبحانه في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشّكّ والرّيب عنها، كما ينجاب السّحاب عن القمر ليلة إبداره، ولم يدع لأمّته حاجة في هذا التّعريف لا إلى من قبله، ولا إلى من بعده، بل كفاهم وشفاهم وأغناهم عن كلّ من تكلّم في هذا الباب أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «٢» .

وعرّفهم الطّريق الموصّل لهم إلى ربّهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدع حسنا إلّا أمرهم به، ولا قبيحا إلّا نهى عنه، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما تركت من شيء يقرّبكم إلى الجنّة إلّا وقد أمرتكم به، ولا من شيء يقرّبكم من النّار إلّا وقد نهيتكم عنه» «٣» . قال أبو ذرّ رضي الله عنه: (لقد توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما طائر يقلّب جناحيه في السّماء


(١) سورة الإسراء: ٧٩.
(٢) سورة العنكبوت: ٥١.
(٣) أورده الهيثمي في «المجمع» (٨/ ٢٦٣، ٢٦٤) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة.