للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

السّالك من التّردّد الّذي هو نوع غفلة وإعراض.

كذلك السّالك إذا ورد مورد «الإخبات» تخلّص من التّردّد والرّجوع، ونزل أوّل منازل الطّمأنينة بسفره، وجدّ في السّير «١» .

وهو على ثلاث درجات: الدّرجة الأولى: أن تستغرق العصمة الشّهوة، وتستدرك الإرادة الغفلة، ويستهوي الطّلب السّلوة.. و «العصمة» هي الحماية والحفظ، و «الشّهوة» الميل إلى مطالب النّفس، و «الاستغراق للشّيء» الاحتواء عليه والإحاطة به.

يقول: تغلب عصمته شهوته وتقهرها وتستوفي جميع أجزائها. فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة: فذلك دليل على إخباته. ودخوله في مقام الطّمأنينة، ونزوله أوّل منازلها، وخلاصه في هذا المنزل من تردّد الخواطر بين الإقبال والإدبار، والرّجوع والعزم، إلى الاستقامة والعزم الجازم، والجدّ في السّير. وذلك علامة السّكينة. وتستدرك إرادته غفلته. و «الإرادة» عند القوم: هي اسم لأوّل منازل القاصدين إلى الله، و «المريد» هو الّذي خرج من وطن طبعه ونفسه، وأخذ في السّفر إلى الله، والدّار الآخرة. فإذا نزل في منزل «الإخبات» أحاطت إرادته بغفلته فاستدركها، واستدرك بها فارطها.

فالحاصل: أنّ عصمته وحمايته تقهر شهوته، وإرادته تقهر غفلته، ومحبّته تقهر سلوته.

الدّرجة الثّانية: أن لا يوحش قلبه عارض، ولا يقطع عليه الطّريق فتنة. و «العارض» هو المخالف كالشّيء الّذي يعترضك في طريقك فيجيء في عرضها. ومن أقوى هذه العوارض: عارض وحشة التّفرّد فلا يلتفت إليه كما قال بعض الصّادقين:

انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطّلب، وقال آخر: لا تستوحش في طريقك من قلّة السّالكين، ولا تغترّ بكثرة الهالكين.

وأمّا «الفتنة» الّتي تقطع عليه الطّريق: فهي الواردات الّتي ترد على القلوب، تمنعها من مطالعة الحقّ وقصده. فإذا تمكّن من منزل «الإخبات» وصحّة الإرادة والطّلب لم يطمع فيه عارض الفتنة.

الدّرجة الثّالثة: أن يستوي عنده المدح والذّمّ وتدوم لائمته لنفسه.

فاعلم أنّه متى استقرّت قدم العبد في منزلة «الإخبات» وتمكّن فيها، ارتفعت همّته، وعلت نفسه عن خطفات المدح والذّمّ، فلا يفرح بمدح النّاس، ولا يحزن لذمّهم. هذا وصف من خرج عن حظّ نفسه، وتأهّل للفناء في عبوديّة ربّه، وصار قلبه مطّرحا لأشعّة أنوار الأسماء والصّفات. وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه. والوقوف عند مدح النّاس وذمّهم:

علامة انقطاع القلب، وخلوّه من الله، وأنّه لم تباشره روح محبّته ومعرفته، ولم يذق حلاوة التّعلّق به والطّمأنينة إليه، ولا يذوق العبد حلاوة الإيمان،


(١) مدارج السالكين لابن القيم (٢/ ٧) .