تعذّبهم؛ لأنّ قربة العبوديّة تستدعي إحسان السّيّد إلى عبده ورحمته. فلماذا يعذّب أرحم الرّاحمين، وأجود الأجودين، وأعظم المحسنين إحسانا عبيده؟ لولا فرط عتوّهم، وإبائهم، عن طاعته، وكمال استحقاقهم للعذاب.
وقد تقدّم قول إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي هم عبادك، وأنت أعلم بسرّهم وعلانيتهم، فإذا عذّبتهم: عذّبتهم على علم منك بما تعذّبهم عليه. فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه. وهذا هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله، وكمال علمه بحالهم، واستحقاقهم للعذاب.
ثمّ قرأ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (المائدة/ ١١٨) . ولم يقل: «الغفور الرّحيم» وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى. فإنّه قال في وقت غضب الرّبّ عليهم، والأمر بهم إلى النّار، فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة، بل مقام براءة منهم. فلو قال «فإنّك أنت الغفور الرّحيم» لأشعر باستعطافه ربّه على أعدائه الّذي قد اشتدّ غضبه عليهم. فالمقام مقام موافقة للرّبّ في غضبه على من غضب الرّبّ عليهم. فعدل عن ذكر الصّفتين اللّتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزّة والحكمة، المتضمّنتين لكمال القدرة وكمال العلم.
والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون من كمال القدرة والعلم، ليست عن عجز عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليهم بمقدار جرائمهم. وهذا لأنّ العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه، ولجهله مقدار إساءته إليه. والكمال: هو مغفرة القادر العالم، وهو العزيز الحكيم. وكان ذكر هاتين الصّفتين في هذا المقام عين الأدب فى الخطاب.
وفي بعض الآثار «حملة العرش أربعة: اثنان يقولان: سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك. واثنان يقولان: سبحانك اللهمّ وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك» ولهذا يقترن كلّ من هاتين الصّفتين بالأخرى، كقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ وقوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً.
وكذلك قول إبراهيم الخليل صلّى الله عليه وسلّم: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (الشعراء/ ٧٨- ٨٠) . ولم يقل «وإذا أمرضني» حفظا للأدب مع الله.
وكذلك قول الخضر عليه السّلام في السّفينة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها (الكهف/ ٧٩) . ولم يقل «فأراد ربّك أن أعيبها» وقال في الغلامين فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما (الكهف/ ٨٢) .
وكذلك قول مؤمني الجنّ وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ (الجن/ ١٠) . ولم يقولوا «أراده ربّهم» ثمّ قالوا أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً.
وألطف من هذا قول موسى عليه السّلام:
رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (القصص/ ٢٤) . ولم يقل «أطعمني» .
وقول آدم عليه السّلام رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (الأعراف/ ٢٣) . ولم يقل «ربّ قدّرت عليّ وقضيت عليّ» .