للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شاعر، كاهن، ساحر. وكان أنيس أحد الشّعراء.

قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة. فما هو بقولهم. ولقد وضعت قوله على أقراء الشّعر «١» فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنّه شعر، والله إنّه لصادق وإنّهم لكاذبون. قال: قلت: فاكفني حتّى أذهب فأنظر. قال فأتيت مكّة. فتضعّفت «٢» رجلا منهم. فقلت: أين هذا الّذي تدعونه الصّابأ؟ فأشار إليّ، فقال: الصّابأ «٣» . فمال عليّ أهل الوادي بكلّ مدرة «٤» وعظم. حتّى خررت مغشيّا عليّ. قال فارتفعت حين ارتفعت، كأنّي نصب أحمر «٥» . قال فأتيت زمزم فغسلت عنّي الدّماء: وشربت من مائها.

ولقد لبثت، يا ابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم. ما كان لي طعام إلّا ماء زمزم. فسمنت حتّى تكسّرت عكن بطني «٦» . وما وجدت على كبدي سخفة جوع «٧» .

قال: فبينا أهل مكّة في ليلة قمراء «٨» إضحيان «٩» ، إذ ضرب على أسمختهم «١٠» . فما يطوف بالبيت أحد.

وامرأتين «١١» منهم تدعوان إسافا ونائلة. قال: فأتتا عليّ في طوافهما فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى. قال:

فما تناهتا «١٢» عن قولهما. قال: فأتتا عليّ. فقلت:

هن مثل الخشبة «١٣» . غير أنّي لا أكني. فانطلقتا تولولان «١٤» . وتقولان: لو كان ههنا أحد من أنفارن «١٥» قال: فاستقبلهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر.

وهما هابطان. قال: «ما لكما؟» قالتا: الصّابأ بين الكعبة وأستارها. قال: «ما قال لكما؟» قالتا: إنّه قال لنا كلمة تملأ الفم «١٦» . وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى استلم الحجر. وطاف بالبيت هو وصاحبه. ثمّ صلّى.

فلمّا قضى صلاته (قال أبو ذرّ) فكنت أنا أوّل من حيّاه بتحيّة الإسلام. قال: فقلت: السّلام عليك يا رسول


(١) أقراء الشعر: أي طرقه وأنواعه.
(٢) فتضعفت: يعني نظرت إلى أضعفهم فسألته. لأن الضعيف مأمون الغائلة دائما.
(٣) الصابأ: منصوب على الاغراء. أي انظروا وخذوا هذا الصابأ.
(٤) مدرة: الطين اللزج المتماسك.
(٥) نصب أحمر: يعني من كثرة الدماء التي سالت مني بضربهم. والنصب الصنم والحجر كانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده، فيحمر بالدم. وجمعه أنصاب. ومنه قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
(٦) عكن بطني: جمع عكنة، وهو الطي في البطن من السّمن. معنى تكسرت أي انثنت وانطوت طاقات لحم بطنه.
(٧) سخفة جوع: بفتح السين وضمها. هي رقة الجوع وضعفه وهزاله.
(٨) قمراء: أي مقمرة.
(٩) إضحيان: أي مضيئة، منورة. يقال: ليلة إضحيان وإضحيانة. وضحياء ويوم أضحيان.
(١٠) أسمختهم: هكذا في جميع النسخ. وهو جمع سماخ، وهو الخرق الذي في الأذن يفضي إلى الرأس. يقال: صماخ وسماخ. والصاد أفصح وأشهر. والمراد بأسمختهم، هنا، آذانهم. أي ناموا: قال الله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي أنمناهم.
(١١) وامرأتين: هكذا هو في معظم النسخ بالياء. وفي بعضها: وامرأتان، بالألف. والأول منصوب بفعل محذوف. أي ورأيت امرأتين.
(١٢) فما تناهتا: أي ما انتهتا.
(١٣) هن مثل الخشبة: الهن والهنة، بتخفيف نونهما، هو كناية عن كل شيء، وأكثر ما يستعمل كناية عن الفرج والذكر. فقال لهما أير مثل الخشبة في الفرج، وأراد بذلك سب إساف ونائلة وغيظ الكفار بذلك.
(١٤) تولولان: الولولة الدعاء بالويل.
(١٥) أنفارنا: الأنفار جمع نفر أو نفير، وهو الذي ينفر عند الاستغاثة.
(١٦) تملأ الفم: أي عظيمة لا شي أقبح منها. كالشيء الذي يملأ الشيء ولا يسع غيره. وقيل معناه لا يمكن ذكرها وحكايتها. كأنها تسد فم حاكيها وتملؤه لاستعظامها.