مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطّلت العين عن الإبصار، فلو ذهبنا إلى نصف ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب والايات لانقضى فيها الأعمار.
فانظر الان إلى العظام، وهي أجسام صلبة قويّة كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة، ثمّ جعلها قواما للبدن وعمادا له، ثمّ قدّرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة فمنه صغير وكبير وطويل ومستدير ومجوّف ومصمت وعريض ودقيق. ولمّا كان الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه، مفتقرا للتّردّد في حاجاته، لم يجعل عظمه عظما واحدا بل عظاما كثيرة بينها مفاصل حتّى تتيسّر بها الحركة، وقدّر شكل كلّ واحدة منها على وفق الحركة المطلوبة منها، ثمّ وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الاخر كرباط له، ثمّ خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه وفي الاخر حفرا غائصة فيه موافقة لشكل الزّوائد لتدخل فيها وتطبق عليها، فصار العبد إن أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذّر عليه ذلك.
ثمّ انظر كيف خلق عظام الرّأس وكيف جمعها وركّبها، وقد ركّبها من خمسة وخمسين عظما مختلفة الأشكال والصّور فألّف بعضها إلى بعض بحيث استوى به كرة الرّأس. كما تراه. فمنها ستّة تخصّ القحف، وأربعة عشر للّحي الأعلى، واثنان للّحي الأسفل، والبقيّة هي الأسنان بعضها عريضة تصلح للطّحن وبعضها حادّة تصلح للقطع، وهي الأنياب والأضراس والثّنايا، ثمّ جعل الرّقبة مركبا للرّأس وركّبها من سبع خرزات مجوّفات مستديرات فيها تحريفات وزيادات ونقصانات لينطبق بعضها على بعض- ويطول ذكر وجه الحكمة فيها.
ثمّ ركّب الرّقبة على الظّهر، وركّب الظّهر من أسفل الرّقبة إلى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة، وركّب عظم العجز من ثلاثة أجزاء مختلفة، فيتّصل به من أسفله عظم العصعص وهو أيضا مؤلّف من ثلاثة أجزاء.
ثمّ وصل عظام الظّهر بعظام الصّدر وعظام الكتف وعظام اليدين وعظام العانة وعظام العجز وعظام الفخذين والسّاقين وأصابع الرّجلين، فلا نطوّل بذكر عدد ذلك. ومجموع عدد العظام في بدن الإنسان مئتا عظم وثمانية وأربعون عظما، سوى العظام الصّغيرة الّتي حشا بها خلل المفاصل، فانظر كيف خلق جميع ذلك من نطفة سخيفة رقيقة.
وليس المقصود من ذكر أعداد العظام أن يعرف عددها؛ فإنّ هذا علم قريب يعرفه الأطبّاء والمشرّحون، إنّما الغرض أن ينظر منها في مدبّرها وخالقها أنّه كيف قدّرها ودبّرها، وخالف بين أشكالها وأقدارها، وخصّصها بهذا العدد المخصوص لأنّه لو زاد عليها واحدا لكان وبالا على الإنسان يحتاج إلى قلعه، ولو نقص منها واحدا لكان نقصانا يحتاج إلى جبره، فالطّبيب ينظر فيها ليعرف وجه العلاج في جبرها وأهل البصائر ينظرون فيها ليستدلّوا بها على جلالة خالقها، ومصوّرها، فشتّان بين النّظرين.