ثمّ انظر كيف خلق الله تعالى آلات لتحريك العظام وهي العضلات. فخلق في بدن الإنسان تسعا وعشرين وخمس مائة عضلة- والعضلة مركّبة من لحم وعصب ورباط وأغشية- وهي مختلفة المقادير والأشكال بحسب اختلاف مواضعها وقدر حاجاتها، فأربع وعشرون عضلة منها هي لتحريك حدقة العين وأجفانها، لو نقصت واحدة من جملتها اختلّ أمر العين. وهكذا لكلّ عضو عضلات بعدد مخصوص وقدر مخصوص. وكلّ ذلك صنع الله في قطرة ماء قذرة، فترى من هذا صنعه في قطرة ماء فما صنعه في ملكوت السّماوات وكواكبها. وما حكمته في أوضاعها وأشكالها ومقاديرها وأعدادها واجتماع بعضها وتفرّق بعضها واختلاف صورها وتفاوت مشارقها ومغاربها؟
فلا تظنّنّ أنّ ذرّة من ملكوت السّماوات تنفكّ عن حكمة، وحكم، بل هي أحكم خلقا وأتقن صنعا، وأجمع للعجائب من بدن الإنسان؛ بل لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السّماوات ولذلك قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها* وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (النازعات/ ٢٧- ٢٩) .
فارجع الان إلى النّطفة وتأمّل حالها أوّلا وما صارت إليه ثانيا، وتأمّل أن لو اجتمع الجنّ والإنس على أن يخلقوا للنّطفة سمعا أو بصرا أو عقلا أو قدرة أو علما أو روحا أو يخلقوا فيها عظما أو عرقا أو عصبا أو جلدا أو شعرا هل يقدرون على ذلك؟.
أنت ترى النّطفة القذرة كانت معدومة فخلقها خالقها في الأصلاب والتّرائب، ثمّ أخرجها منها وشكّلها فأحسن تشكيلها وقدّرها فأحسن تقديرها وتصويرها. وقسّم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة فأحكم العظام في أرجائها، وحسّن أشكال أعضائها وزيّن ظاهرها وباطنها ورتّب عروقها وأعصابها وجعلها مجرى لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها، وجعلها سميعة بصيرة عالمة ناطقة. وخلق لها الظّهر أساسا لبدنها والبطن حاويا لآلات غذائها والرّأس جامعا لحواسّها، ففتح العينين ورتّب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وهيئاتها، ثمّ حماها بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها، ثمّ أظهر في مقدار عدسة منها صورة السّماوات مع اتّساع أكنافها وتباعد أقطارها، فهو ينظر إليها. ثمّ شقّ أذنيه وأودعهما ماء مرّا ليحفظ سمعها ويدفع الهوامّ عنها وحوّطها بصدفة الأذن لتجمع الصّوت فتردّه إلى صماخها ولتحسّ بدبيب الهوامّ إليها، وجعل فيها تحريفات واعوجاجات لتكثر حركة ما يدبّ فيها شكله، وفتح منخريه وأودع فيها حاسّة الشّمّ ليستدلّ باستنشاق الرّوايح على مطاعمه وأغذيته، وليستنشق بمنفذ المنخرين روح الهواء غذاء لقلبه وترويحا لحرارة باطنه، وفتح الفم وأودعه اللّسان ناطقا وترجمانا ومعربا عمّا في القلب وزيّن الفم بالأسنان لتكون آلة الطّحن والكسر والقطع فأحكم أصولها وحدّد رءوسها وبيّض لونها ورتّب صفوفها متساوية الرّءوس متناسقة التّرتيب كأنّها الدّر المنظوم، وخلق الشّفتين وحسّن لونها وشكلها لتنطبق على الفم فتسدّ منفذه