للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الملكوت لترى عجائب العزّ والجبروت.

فتأمّل أيّها العاقل في الملكوت فعسى أن تفتح لك أبواب السّماء فتجول بقلبك في أقطارها إلى أن يقوم قلبك بين يدي عرش الرّحمن، وأدنى شيء إليك نفسك ثمّ الأرض الّتي هي مقرّك، ثمّ الهواء المكتنف لك، ثمّ النّبات والحيوان وما على وجه الأرض، ثمّ عجائب الجوّ وهو ما بين السّماء والأرض، ثمّ السّماوات السّبع بكواكبها، ثمّ الكرسيّ، ثمّ العرش، ثمّ الملائكة الّذين هم حملة العرش وخزّان السّماوات.

فارفع الان رأسك إلى السّماء وانظر فيها: في كواكبها وفي دورانها وطلوعها وغروبها وشمسها وقمرها واختلاف مشارقها ومغاربها ودءوبها في الحركة على الدّوام- من غير فتور في حركتها ومن غير تغّير في سيرها؛ بل تجري جميعا في منازل مرتّبة بحساب مقدّر لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها الله تعالى طيّ السّجلّ للكتاب- وتدبّر عدد كواكبها وكثرتها واختلاف ألوانها، فبعضها يميل إلى الحمرة وبعضها إلى البياض وبعضها إلى اللّون الرّصاصيّ. ثمّ انظر كيفيّة أشكالها، فبعضها على صورة العقرب وبعضها على صورة الحمل والثّور والأسد والإنسان، وما من صورة في الأرض إلّا ولها مثال في السّماء. ثمّ انظر إلى مسير الشّمس في فلكها في مدّة سنة، ثمّ هي تطلع في كلّ يوم وتغرب، بسير آخر سخّرها له خالقها، ولولا طلوعها وغروبها لما اختلف اللّيل والنّهار ولم تعرف المواقيت، ولأطبق الظّلام على الدّوام، أو الضّياء على الدّوام، فكان لا يتميّز وقت المعاش عن وقت الاستراحة، فانظر كيف جعل الله تعالى اللّيل لباسا والنّوم سباتا والنّهار معاشا، وانظر إلى إيلاجه اللّيل في النّهار، والنّهار في اللّيل، وإدخاله الزّيادة والنّقصان عليهما على ترتيب مخصوص. وانظر إلى إمالته مسير الشّمس عن وسط السّماء حتّى اختلف بسببه الصّيف والشّتاء والرّبيع والخريف، فإذا انخفضت الشّمس من وسط السّماء في مسيرها برد الهواء وظهر الشّتاء، وإذا استوت في وسط السّماء اشتدّ القيظ «١» ، وإذا كانت فيما بينهما اعتدل الزّمان، وعجائب السّماوات لا مطمع في إحصاء عشر عشير جزء من أجزائها، وإنّما هذا تنبيه على طريق الفكر) * «٢» .

١٩-* (قال ابن القيّم- رحمه الله-: أصل الخير والشّرّ من قبل التّفكّر، فإنّ الفكر مبدأ الإرادة والطّلب في الزّهد والتّرك والحبّ والبغض، وأنفع الفكر الفكر في مصالح المعاد، وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد، وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أجلّ الأفكار، ويليها أربعة: فكر في مصالح الدّنيا وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدّنيا وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثّمانية دارت أفكار العقلاء. ورأس القسم الأوّل


(١) القيظ: شدة الحر.
(٢) إحياء علوم الدين للغزالي (٤/ ٤٣٤- ٤٤٦) .