السّماء ومحدّب الأرض يدرك بحسّ اللّمس عند هبوب الرّياح جسمه، ولا يرى بالعين شخصه، وجملته مثل البحر الواحد والطّيور محلّقة في جوّ السّماء ومستبقة سبّاحة فيه بأجنحتها كما تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هبوب الرّياح كما تضطرب أمواج البحر، فإذا حرّك الله الهواء وجعله ريحا هابّة، فإن شاء جعله نشرا بين يدي رحمته كما قال سبحانه وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ (الحجر/ ٢٢) فيصل بحركته روح الهواء إلى الحيوانات والنّباتات فتستعدّ للنّماء، وإن شاء جعله عذابا على العصاة من خليقته كما قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ* تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (القمر/ ١٩- ٢٠) .
ثمّ انظر إلى عجائب الجوّ وما يظهر فيه من الغيوم والرّعود والبروق والأمطار والثّلوج والشّهب والصّواعق، فهي عجائب ما بين السّماء والأرض، وقد أشار القرآن إلى جملة ذلك في قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (الدخان/ ٣٨) .
ومن آياته ملكوت السّماوات والأرض، وما فيها من الكواكب، وهو الأمر كلّه، ومن أدرك الكلّ وفاته عجائب السّماوات فقد فاته الكلّ تحقيقا.
فالأرض والبحار والهواء وكلّ جسم سوى السّماوات بالإضافة إلى السّماوات قطرة في بحر وأصغر. ثمّ انظر كيف عظّم الله أمر السّماوات والنّجوم في كتابه، فما من سورة إلّا وتشتمل على تفخيمهما في مواضع، وكم من قسم في القرآن بها كقوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (البروج/ ١) ، وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (الطارق/ ١) ، وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (الذاريات/ ٧) ، وَالسَّماءِ وَما بَناها (الشمس/ ٥) ، وكقوله:
وَالشَّمْسِ وَضُحاها* وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها، (الشمس/ ١- ٢) وكقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ الْكُنَّسِ (التكوير/ ١٥- ١٦) ، وقوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، النجم/ ١) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (الواقعة/ ٧٥- ٧٦) وقد علمت أنّ عجائب النّطفة القذرة عجز عن معرفتها الأوّلون والاخرون، وما أقسم الله بها- فما ظنّك بما أقسم الله تعالى به وأحال الأرزاق عليه وأضافها إليه فقال تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (الذاريات/ ٢٢) وأثنى على المفكّرين فيه فقال: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (آل عمران/ ١٩١) . وذمّ المعرضين عنها فقال: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (الأنبياء/ ٣٢) فأيّه نسبة لجميع البحار والأرض إلى السّماء وهي متغيّرات على القرب، والسّماوات صلاب شداد محفوظات عن التّغيّر إلى أن يبلغ الكتاب أجله، ولذلك سمّاه الله تعالى محفوظا فقال: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً (الأنبياء/ ٣٢) ، وقال سبحانه: