للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حتّى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمّد ابن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف أصنع؟ قال: «اغتسلي، واستثفري «١» بثوب وأحرمي» .

فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، ثمّ ركب القصواء «٢» ، حتّى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مدّ بصري بين يديه، من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهلّ بالتّوحيد «٣» : لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك.

وأهلّ النّاس بهذا الّذي يهلّون به، فلم يردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهم شيئا منه، ولزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلبيته، قال جابر- رضي الله عنه-: لسنا ننوي إلّا الحجّ، لسنا نعرف العمرة، حتّى إذا أتينا البيت معه، استلم الرّكن فرمل ثلاثا «٤» ومشى أربعا، ثمّ نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السّلام فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (٢/ البقرة/ الآية ١٢٥) ، فجعل المقام بينه وبين البيت، فكان أبي يقول (ولا أعلمه ذكره إلّا عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم) : كان يقرأ في الرّكعتين قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. ثمّ رجع إلى الرّكن فاستلمه، ثمّ خرج من الباب «٥» إلى الصّفا، فلمّا دنا من الصّفا قرأ إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ (البقرة/ ١٥٨) ، أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصّفا، فرقي عليه، حتّى رأى البيت فاستقبل القبلة، فوحّد الله وكبّره، وقال: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، لا إله إلّا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثمّ دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرّات، ثمّ نزل إلى المروة، حتّى إذا انصبّت قدماه «٦» في بطن الوادي سعى، حتّى إذا صعدتا»

مشى، حتّى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصّفا، حتّى إذا كان آخر طوافه على المروة، فقال: «لو أنّي استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلّ، وليجعلها عمرة» . فقام سراقة بن مالك ابن جعشم، فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟، فشبّك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: «دخلت العمرة في الحجّ (مرّتين) لا بل لأبد أبد» ، وقدم عليّ من اليمن ببدن «٨» النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فوجد فاطمة- رضي الله عنها-


(١) واستثفري: الاستثفار: هو أن تشد في وسطها شيئا، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها، من قدامها ومن ورائها، في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بثفر الدابة الذي يجعل تحت ذنبها.
(٢) القصواء: هي ناقته صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو عبيد: القصواء: المقطوعة الأذن عرضا.
(٣) فأهل بالتوحيد: يعني قوله: لبيك لا شريك لك.
(٤) رمل ثلاثا: الرّمل هو إسراع المشي مع تقارب الخطا.
(٥) ثم خرج من الباب: أي من باب بني مخزوم، وهو الذي يسمى باب الصفا؛ لأنه أقرب الأبواب إلى الصفا.
(٦) حتى إذا انصبت قدماه: أي انحدرت، فهو مجاز من انصباب الماء.
(٧) حتى إذا صعدتا: أي ارتفعت قدماه عن بطن الوادي.
(٨) ببدن: هو جمع بدنة، وأصله الضم، كخشب في جمع خشبة.