للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كان يتناوب مع جار له من الأنصار النّزول إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول ابن الخطّاب: فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك، وها هو ابن عبّاس- رضي الله عنهما- يحدّث عن علوّ همّته في طلب العلم فيقول: كان يبلغني الحديث عن الرّجل فاتي بابه وهو قائل «١» ، فأتوسّد ردائي على بابه، يسفي الرّيح عليّ من التّراب فيخرج فيراني فيقول: يابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما جاء بك؟

هلّا أرسلت إليّ فاتيك؟. فأقول: لا، أنا أحقّ أن آتيك. أمّا الشّافعيّ فقد وصف حاله مع العلم بقوله:

أسمع بالحرف ممّا لم أسمعه، فتودّ أعضائي أنّ لها أسماعا تتنعّم به ما تنعّمت به الأذنان. وقيل له يوما:

كيف حرصك على العلم؟ قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذّته للمال، فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال:

طلب المرأة المضلّة ولدها ليس لها غيره، أمّا أحمد ابن حنبل فقد حكى عن نفسه «كنت ربّما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمّي بثيابي حتّى يؤذّن النّاس، أو حتّى يصبحوا» . وقال: «لو كان عندي خمسون درهما لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد» «٢» ، وكان من مظاهر علوّ همّتهم في طلب العلم الدّأب على تحصيله في أقلّ وقت ممكن وها هو الفيروز اباديّ صاحب القاموس يقرأ صحيح مسلم على شيخه في ثلاثة أيّام، أمّا الحافظ ابن حجر فقرأ صحيح البخاريّ في أربعين ساعة، وصحيح مسلم في أربعة مجالس عدا جلسة الختم «٣» . ومن هذه المظاهر أيضا الرّحلة في طلب العلم حتّى لقد كان الواحد منهم يرحل مسيرة شهر في حديث واحد «٤» ، وكانوا يتحمّلون الفقر والفاقة دون أن يفتّ ذلك في عضدهم، وكانوا لا يكترثون بذلك تمسّكا بمثوبة الصّبر، وكانوا ينفقون كلّ ما عندهم في سبيل العلم، وها هو يحيى بن معين- رحمه الله تعالى- خلّف له أبوه ألف ألف درهم فأنفقها كلّها على تحصيل الحديث حتّى لم يبق له نعل يلبسه، وكان ذلك عندهم- كما أخبر ابن الجوزيّ- أحلى من العسل.

يقول- رحمه الله تعالى- لقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشّدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصّبا آخذ أرغفة يابسة وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلّا عند الماء «٥» .

ومن مظاهر ذلك أيضا سهرهم اللّيالي في


(١) قائل: أي يقضي وقت القيلولة.
(٢) انظر هذه الحكايات وغيرها في «علو الهمة» ١٤٥- ١٤٨) .
(٣) علو الهمة (١٥٥- ١٥٦) بتصرف واختصار.
(٤) وذلك كما حدث من جابر بن عبد الله الذي ارتحل شهرا إلى عبد الله بن أنيس وكما رحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى عقبة بن عامر وهو في مصر ليروي عنه حديثا، فلما قدمها لم يحل رحله عن ناقته ونزل عنها فسمع الحديث وقفل راجعا إلى المدينة. انظر «علو الهمة» (١٥٧) .
(٥) علو الهمة (١٦٤) .