للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

طلب العلم وعدم الخلود إلى راحة النّوم، يقول ابن كثير: كان البخاريّ يستيقظ في اللّيلة الواحدة من نومه، فيوقد السّراج ويكتب الفائدة تمرّ بخاطره، ثمّ يطفىء سراجه، ثمّ يقوم مرّة أخرى وأخرى، حتّى كان يتعدّد منه ذلك قريبا من عشرين مرّة. والحكايات في ذلك أكثر من أن تحصى «١» . أمّا مذاكرة العلم ومدارسته فحدّث عنهم ولا حرج، فمن ذلك ما حكاه القطب اليونينيّ عن الإمام النّوويّ من أنّه كان لا يضيع له وقت في ليل ولا نهار إلّا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتّى إنّه في ذهابه في الطّريق وإيابه يشتغل في تكرار محفوظه أو مطالعة، وإنّه بقي على التّحصيل- على هذا الوجه- ستّ سنين، وكان يقرأ في كلّ يوم اثنى عشر درسا على المشايخ شرحا وتصحيحا، أمّا همّتهم في الحفظ فيكفي دليلا عليها أنّ الإمام أحمد كان يحفظ ألف ألف حديث. فقيل له: ما يدريك؟ قال: ذاكرته وأخذت عليه الأبواب «٢» .

المجال الثّاني: علوّ الهمّة في العبادة والاستقامة: لقد فقه سلفنا الصّالح عن الله أمره، وتدبّروا في حقيقة الدّنيا فاستوحشوا من فتنتها وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وارتفعت همّتهم عن سفاسفها، فلا تراهم إلّا صوّامين قوّامين، وقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشيد بعلوّ همّتهم في التّوبة والاستقامة، وقوّة عزيمتهم في العبادة والإخبات.

المجال الثّالث: البحث عن الحقّ: لقد حفل التّاريخ الإسلاميّ بنماذج رائعة من المهتدين الّذين ارتفعت همّتهم في البحث عن الحقيقة الدّينيّة أو البحث عن الدّين الحقّ، وبذلوا في سبيل ذلك النّفس والنّفيس، فصاروا مضرب الأمثال، وحجّة لله على خلقه أنّ من انطلق باحثا عن الحقّ مخلصا لله تعالى فإنّ الله عزّ وجلّ يهديه إليه ويمنّ عليه بأعظم نعمة في الوجود هي نعمة الإسلام «٣» .

المجال الرّابع: علوّ الهمّة في الدّعوة إلى الله: من أعظم ما يهتمّ به الدّاعية هداية قومه، وبلوغ الجهد في النّصح لهم والصّبر على مشاقّ الدّعوة حتّى تبلغ الغاية الّتي يريد الله أن تبلغها، وقد كان الرّسل الكرام على رأس قائمة عالي الهمّة في هذا المجال وكان حبيبنا وسيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الغاية العظمى، والمثل الأعلى الّذي ينبغي أن يحذو حذوه كلّ داعية إلى الله عزّ وجلّ، إذ لم يكن همّه هداية قومه من قريش أو من العرب فحسب وإنّما خاطب ملوك العالم ورؤساءه كي يدخلوا في دين الله.


(١) انظر ذلك في «علو الهمة» (١٦٥، ١٧٢) .
(٢) المرجع السابق (١٨٣) ؛ وقد ذكر الشيخ محمد المقدم أمثلة أخرى عديدة على علو همة السلف في حب الكتب وتصنيفها ونشر العلم وتعليمه، لم نذكرها خوف الإطالة، ولينظرها من أراد (١٨٧- ٢٠٨) .
(٣) المرجع السابق (٢١٧) .