للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واهتمت حكومة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقضاء الذي يهدف إلى تحقيق العدل والإنصاف بين المتخاصمين. وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ «١» . وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقضي بنفسه بين الناس في المدينة فهو أول القضاة في الإسلام. وقد أمره الله تعالى بذلك فقال: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «٢» . وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «٣» .

ولما انتشر الإسلام خارج المدينة عين الولاة على المدن من أهل الفقه ليقضوا بين الناس في خصوماتهم إلى جانب إدارة المدينة أو الإقليم. وقد قال علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن قاضيا» «٤» ، كما «أرسل معاذا إلى اليمن قاضيا وقال له: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال: أقضي بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: «فإن لم تجد في سنّة رسول الله ولا في كتاب الله؟» قال: أجتهد برأيي ولا آلوا. فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدره وقال: «الحمد لله الّذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله» «٥» .

ومن آداب مجلس القضاء في عصر السيرة جلوس الخصمين بين يدي القاضي «٦» . ومنها أن لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان «٧» . وأن يحتج القاضي بإقرار المتهم، وهو شهادة الإنسان على نفسه، فقد قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم إقرار ما عز والغامدية بالزنا «٨» . ويعمل بشهادة الشهود العدول، ولا يعذر الشاهد إذا امتنع عن الإدلاء بشهادته وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا «٩» ، وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «١٠» . وقد شدّد النبي صلّى الله عليه وسلّم على شهادة الزور «١١» . وقضى: «البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر» الذي ورد في ثنايا حديث شريف «١٢» .

ولم تكن في المدينة خلال عصر السيرة، قوى أمن أو شرطة تفرض النظام وتحقق الأمن، لذلك نصت الوثيقة على أن هذه المهمة يقوم بها جميع المؤمنين، فهم يسعون للضرب على أيدي الجناة، ولا يساعدونهم في الهرب من العدالة «ولو كان ولد أحدهم» . وقد نجحت هذه الخطة، وبعد أن كان الثأر هو القاعدة لتسوية الحسابات قبل الإسلام، فإنه صار حالة استثنائية نادرة، ولم يسجل التاريخ إلّا بضع حالات جرت في ظروف خاصة


(١) القرآن الكريم- سورة النساء، الآية/ ٥٨.
(٢) القرآن الكريم- سورة المائدة، الآية/ ٤٨.
(٣) القرآن الكريم- سورة النساء، الآية/ ٦٥.
(٤) الماوردي- أدب القاضي ٢/ ٢٥٤- ٢٥٨.
(٥) أحمد- المسند ٥/ ٢٣٦، ٢٤٢.
(٦) أبو داود- السنن (عون المعبود ٩/ ٤٩٨- ٩) .
(٧) البخاري- الصحيح- كتاب الأحكام ١٣، أحمد- المسند ٥/ ٥٢، ١٨١.
(٨) مسلم- الصحيح- كتاب الحدود ص/ ٢٢- ٢٣، الدارمي- السنن- الحدود ص/ ١٧، ابن ماجه- السنن، حدود ص/ ٢٤. والبخاري في مواضع.
(٩) القرآن الكريم- سورة البقرة، الآية/ ٢٨٢.
(١٠) القرآن الكريم- سورة الطلاق، الآية/ ٢.
(١١) البخاري- الصحيح، الاستتابة/ ١، الديات/ ٢، الحيل/ ١١، مسلم- الصحيح، كتاب الإيمان ص/ ١٤٣- ١٤٤.
(١٢) البخاري- الصحيح، كتاب الرهن ص ٦.