للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقالت: هذا ما قلت لك؟ قال عبيد الله: وما قالت لك؟ فأخبره، فازداد تعجّبا وقال: خبّريني، فما ادّخرت لبنيك إذا انصرفوا؟ قالت: ما قال حاتم طيّء:

ولقد أبيت على الطّوى «١» وأظلّه ... حتّى أنال به كريم المأكل

فازداد منها عبيد الله تعجّبا. وقال: أرأيت لو انصرف بنوك وهم جياع، ولا شيء عندك، ما كنت تصنعين بهم؟ قالت: يا هذا، لقد عظمت هذه الخبزة عندك وفي عينك حتّى أن صرت لتكثر فيها مقالك، وتشغل بذكرها بالك، أله عن هذا وما أشبهه؛ فإنّه يفسد النّفس، ويؤثّر في الحسّ. فازداد تعجّبا، ثمّ قال لغلامه: انطلق إلى فتيانها فإذا أقبل بنوها فجئني بهم، فقالت العجوز: أما إنّهم لا يأتونك إلّا بشريطة.

قال: وما هي؟ قالت: لا تذكر لهم ما ذكرته لي، فإنّهم شباب حداث، تحرجهم الكلمة، ولا آمن بوادرهم إليك، وأنت في هذا البيت الرّفيع والشّرف العالي، فإذا نحن من شرّ العرب جوارا، فازداد عبيد الله تعجّبا، وقال لها: سأفعل ما أمرت به. فقالت العجوز للغلام: انطلق. فاقعد بحذاء الخباء الّذي رأيتني في ظلّه، فإذا أقبل ثلاثة أحدهم دائم الطّرف نحو الأرض، قليل الحركة، كثير السّكون، فذاك الّذي إذا خاصم أفصح وإذا طلب أنجح. والآخر دائم النّظر، كثير الحذر، له أبّهة قد كلمت من حدّه. وأثّرت في نسبه، فذاك الّذي إذا قال فعل، وإذا ظلم قتل.

والآخر كأنّه شعلة نار، وكأنّه يطلب الخلق بثأر، فذاك الموت المائت، وهو والله والموت قسمان. فاقرأ عليهم سلامي، وقل لهم تقول لكم والدتكم: لا يحدثنّ أحد منكم أمرا حتّى تأتوها. فانطلق الغلام، فلمّا جاء الفتية أخبرهم. فما قعد قائمهم، ولا شدّ جمعهم حتّى تقدّموا سراعا. فلمّا دنوا من عبيد الله، ورأوا أمّهم، سلّموا، فأدناهم عبيد الله من مجلسه، وقال: إنّي لم أبعث إليكم ولا إلى أمّكم لما تكرهون. قالوا: فما بعد هذا؟ قال:

أحبّ أن أصلح من أمركم، وألمّ من شعثكم «٢» . قالوا:

إنّ هذا قلّ ما يكون إلّا عن سؤال أو مكافأة لفعل قديم. قال: ما هو لشيء من ذلك. ولكن جاورتكم في هذه اللّيلة، وخطر ببالي أن أضع بعض مالي فيما يحبّ الله، قالوا: يا هذا، إنّ الّذي يحبّ الله لا يجب لنا. إذ كنّا في خفض من العيش. وكفاف من الرّزق، فإن كنت هذا أردت فوجّهه نحو من يستحقّ، وإن كنت أردت النّوال مبتدئا لم يتقدّمه سؤال، فمعروفك مشكور وبرّك مقبول، فأمر لهم عبيد الله بعشرة آلاف درهم وعشرين ناقة، وحوّل أثقاله إلى البغال والدّوابّ، وقال: ما ظننت أنّ في العرب والعجم من يشبه هذه العجوز وهؤلاء الفتيان، فقالت العجوز لفتيانها: ليقل كلّ واحد منكم بيتا من الشّعر في هذا


(١) الطّوى: الجوع.
(٢) شعثكم: تفرقكم