الوقائع، وغرائب البدائع، ما يطرب السّماع، ويشنّف المسامع، كقضيّة الطّائيّ وشريك، نديمي النّعمان بن المنذر. وتلخيص معناها أنّ النّعمان كان قد جعل له يومين: يوم بؤس، من صادفه فيه قتله وأرداه، ويوم نعيم، من لقيه فيه أحسن إليه وأغناه، وكان هذا الطّائيّ قد رماه حادث دهره بسهام فاقته وفقره، فأخرجته الفاقة من محلّ استقراره ليرتاد شيئا لصبيته وصغاره، فبينما هو كذلك إذ صادفه النّعمان في يوم بؤسه، فلمّا رآه الطّائيّ علم أنّه مقتول وأنّ دمه مطلول. فقال: حيّا الله الملك إنّ لي صبية صغارا، وأهلا جياعا، وقد أرقت ماء وجهي في حصول شيء من البلغة لهم، وقد أقدمني سوء الحظّ على الملك في هذا اليوم العبوس، وقد قربت من مقرّ الصّبية والأهل وهم على شفا تلف من الطّوى، ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أوّل النّهار وآخره، فإن رأى الملك أن يأذن لي في أن أوصّل إليهم هذا القوت وأوصي بهم أهل المروءة من الحيّ، لئلّا يهلكوا ضياعا ثمّ أعود إلى الملك وأسلّم نفسي لنفاذ أمره. فلمّا سمع النّعمان صورة مقاله، وفهم حقيقة حاله، ورأى تلهّفه على ضياع أطفاله، رقّ له ورثى لحاله، غير أنّه قال له: لا آذن لك حتّى يضمنك رجل معنا، فإن لم ترجع قتلناه، وكان شريك بن عديّ بن شرحبيل نديم النّعمان معه فالتفت الطّائيّ إلى شريك وقال له:
يا شريك بن عديّ ... ما من الموت انهزام
من لأطفال ضعاف ... عدموا طعم الطّعام
بين جوع وانتظار ... وافتقار وسقام
يا أخا كلّ كريم ... أنت من قوم كرام
يا أخا النّعمان جد لي ... بضمان والتزام
ولك الله بأنّي ... راجع قبل الظّلام
فقال شريك بن عديّ: أصلح الله الملك، عليّ ضمانه، فمرّ الطّائيّ مسرعا، وصار النّعمان يقول لشريك: إنّ صدر النّهار قد ولّى، ولم يرجع، وشريك يقول: ليس للملك عليّ سبيل حتّى يأتي المساء، فلمّا قرب المساء، قال النّعمان لشريك: قد جاء وقتك قم فتأهّب للقتل، فقال شريك: هذا شخص قد لاح مقبلا، وأرجو أن يكون الطّائيّ، فإن لم يكن فأمر الملك ممتثل، قال: فبينما هم كذلك وإذ بالطّائيّ قد اشتدّ في عدوه وسيره مسرعا، حتّى وصل، فقال: خشيت أن ينقضي النّهار قبل وصولي، ثمّ وقف قائما، وقال: أيّها الملك، مر بأمرك فأطرق النّعمان ثمّ رفع رأسه وقال:
والله ما رأيت أعجب منكما، أمّا أنت يا طائيّ فما تركت لأحد في الوفاء مقاما يقوم فيه، ولا ذكرا يفتخر به، وأمّا أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء، فلا أكون أنا ألأم الثلاثة، ألا وإنّي قد رفعت يوم بؤسي عن النّاس، ونقضت عادتي، كرامة لوفاء الطّائيّ وكرم شريك. فقال الطّائيّ:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي ... فعددت قولهم من الإضلال