للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

غيرك من أهل الدّنيا، لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا «١» . ولكنّي- والله- لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي ليوشكنّ «٢» الله أن يسخطك عليّ. ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه «٣» إنّي لأرجو فيه عقبى الله «٤» والله ما كان لي عذر،. والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أمّا هذا- فقد صدق، فقم حتّى يقضي الله فيك» فقمت، وثار رجا من بني سلمة فاتّبعوني فقالوا لي:

والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما اعتذر به إليه المخلّفون. فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لك. قال: فو الله ما زالوا يؤنّبونني «٥» حتّى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأكذّب نفسي. قال: ثمّ قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم.

لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت. فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامريّ «٦» ، وهلال بن أميّة الواقفيّ. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة. قال:

فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين عن كلامنا أيّها الثّلاثة «٧» من بين من تخلّف عنه. قال: فاجتنبنا النّاس، وقال: تغيّروا لنا حتّى تنكّرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض الّتي أعرف «٨» . فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأمّا صاحباي فاستكانا «٩» وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم «١٠» . فكنت أخرج فأشهد الصّلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلّمني أحد. وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلّم عليه- وهو في مجلسه بعد الصّلاة- فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السّلام أم لا؟ ثمّ أصلّى قريبا منه وأسارقه النّظر. فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عنّي. حتّى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين مشيت حتّى تسوّرت «١١» جدار حائط أبي قتادة- وهو ابن عمّي وأحبّ النّاس إليّ- فسلّمت عليه، فو الله


(١) أعطيت جدلا: أي فصاحة وقوة في الكلام وبراعة، بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب إلي، إذا أردت.
(٢) ليوشكن: أي ليسرعن.
(٣) تجد عليّ فيه: أي تغضب.
(٤) إني لأرجو فيه عقبى الله: أي أن يعقبني خيرا، وأن يثيبني عليه.
(٥) يؤنبونني: أي يلومونني أشد اللوم.
(٦) العامري: هكذا: العامري. وأنكره العلماء وقالوا: هو غلط إنما صوابه العمري. من بني عمرو بن عوف. وكذا ذكره البخاري. وكذا نسبه محمد بن إسحاق وابن عبد البر، وغيرهما من الأئمة. قيل: وهو الصواب.
(٧) أيها الثلاثة: قال القاضي: هو بالرفع، وموضعه نصب على الاختصاص. قال سيبويه، نقلا عن العرب: اللهم اغفر لنا، أيتها العصابة، وهذا مثله.
(٨) فما هي بالأرض التي أعرف: معناه: تغير علي كل شيء. حتى الأرض، فإنها توحشت علي وصارت كأنها أرض لم أعرفها، بتوحشها علي.
(٩) فاستكانا: أي خضعا.
(١٠) أشب القوم وأجلدهم: أي أصغرهم سنا وأقواهم.
(١١) حتى تسورت: معنى تسورته علوته وصعدت سوره، وهو أعلاه.