للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دخلنا على جابر بن عبد الله. فسأل عن القوم «١» حتّى انتهى إليّ. فقلت: أنا محمّد بن عليّ بن حسين. فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زرّي الأعلى «٢» ، ثمّ نزع زرّي الأسفل، ثمّ وضع كفّه بين ثدييّ وأنا يومئذ غلام شابّ. فقال: مرحبا بك، يا ابن أخي سل عمّا شئت.

فسألته- وهو أعمى، وحضر وقت الصّلاة. فقام في نساجة «٣» ملتحفا بها، كلّما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه، على المشجب «٤» ، فصلّى بنا. فقلت: أخبرني عن حجّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال بيده «٥» ، فعقد تسعا، فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحجّ، ثمّ أذّن في النّاس «٦» في العاشرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجّ ...

الحديث وفيه: «فأجاز «٧» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أتى عرفة، فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتّى إذا زاغت الشّمس أمر بالقصواء، فرحلت «٨» له، فأتى بطن الوادي «٩» فخطب النّاس وقال: «إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا «١٠» ، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كلّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدميّ موضوع، ودماء الجاهليّة موضوعة، وإنّ أوّل دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهليّة موضوع، وأوّل ربا أضع ربانا، ربا عبّاس بن عبد المطّلب، فإنّه موضوع كلّه، فاتّقوا الله في النّساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمان الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله «١١» ، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه «١٢» ، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربا غير مبرّح «١٣» ، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلّوا


(١) فسأل عن القوم: أي عن جماعة الرجال الداخلين عليه، فإنه إذ ذاك كان أعمى، عمي في آخر عمره.
(٢) فنزع زري الأعلى: أي أخرجه من عروته لينكشف صدري عن القميص.
(٣) نساجة: هذا هو المشهور. ووقع في بعض النسخ: في ساجة. بحذف النون. ونقله القاضي عياض عن رواية الجمهور. قال: وهو الصواب. قال: والساجة والساج، جميعا، ثوب كالطيلسان وشبهه. وقال في النهاية: هي ضرب من الملاحف منسوجة، كأنها سميت بالمصدر. يقال: نسجت أنسج نسجا ونساجة.
(٤) المشجب: هو عيدان تضم رؤوسها، ويفرج بين قوائمها، توضع عليها الثياب.
(٥) فقال بيده: أي أشاربها.
(٦) ثم أذن في الناس: معناه أعلمهم بذلك وأشاعه بينهم ليتأهبوا للحج معه، ويتعلموا المناسك والأحكام ويشهدوا أقواله وأفعاله ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب وتشيع دعوة الإسلام.
(٧) فأجاز: أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها، بل توجه إلى عرفات.
(٨) فرحلت: أي وضع عليها الرحل. والقصواء: ناقته صلّى الله عليه وسلّم.
(٩) بطن الوادي: هو وادي عرنة وليست عرنة من أرض عرفات.
(١٠) كحرمة يومكم هذا: معناه متأكدة التحريم، شديدته.
(١١) بكلمة الله: قيل: معناه قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وقيل: المراد كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم. وقيل: قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ. وهذا الثالث هو الصحيح.
(١٢) ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه: قال الإمام النووي: المختار أن معناه: أن لا يأذنّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم، سواء كان المأذون له رجلا أجنبيا أو امرأة أو أحدا من محارم الزوجة. فالنهي يتناول جميع ذلك. وحكم المسألة عند الفقهاء أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل ولا امرأة، لا محرم ولا غيره، في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه.
(١٣) فاضربوهن ضربا غير مبرح: الضرب المبرح هو الضرب الشديد الشاق. ومعناه اضربوهن ضربا ليس بشديد ولا شاق. والبرح المشقة.