العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النّار: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (الشعراء/ ٩٧- ٩٨) مع إقرارهم بأنّ الله وحده خالق كلّ شيء، وربّه ومليكه، وأنّ آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت. وإنّما كانت هذه التّسوية في المحبّة والتّعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم، بل كلّهم يحبّون معبوداتهم ويعظّمونها ويوالونها من دون الله.
وكثير منهم بل أكثرهم يحبّون آلهتهم أعظم من محبّة الله. ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم ممّا يغضبون إذا انتقص أحد ربّ العالمين، وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب اللّيث إذا حرد، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه ولم تنكر له قلوبهم. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتّخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه ديدنا له إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن مرض وإن استوحش فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه. وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنّه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده، ووسيلته إليه. وهكذا كان عبّاد الأصنام سواء. وهذا القدر هو الّذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم.
فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتّخذوها من البشر. قال الله تعالى، حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (الزمر/ ٣) .
ثمّ شهد عليهم بالكفر والكذب، وأخبر أنّه لا يهديهم فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (الزمر/ ٣) . فهذه حال من اتّخذ من دون الله وليّا يزعم أنّه يقرّبه إلى الله. وما أعزّ من يخلص من هذا؟ بل ما أعزّ من لا يعادي من أنكره.
والّذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أنّ آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشّرك. وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أنّ الشّفاعة كلّها له، وأنّه لا يشفع عنده أحد إلّا لمن أذن الله أن يشفع فيه. ومن جهل المشرك: اعتقاده أنّ من اتّخذه وليّا أو شفيعا أنّه يشفع له، وينفعه عند الله كما يكون خواصّ الملوك والولاة تنفع شفاعتهم من والاهم،
ولم يعلموا أنّ الله لا يشفع عنده أحد إلّا بإذنه، ولا يأذن في الشّفاعة إلّا لمن رضي قوله وعمله.
كما قال تعالى في الأصل الأوّل: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (البقرة/ ٢٥٥) .
وفي الأصل الثّاني: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى (الأنبياء/ ٢٨) .
وبقي أصل ثالث، وهو أنّه لا يرضى من القول والعمل إلّا التّوحيد، واتّباع الرّسول. وعن هاتين الكلمتين يسأل الأوّلين والآخرين. كما قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأوّلون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟.