للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنّهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه. ولئن قلتم: «إنّما حدث بعدهم» . ما أحدثه إلّا من اتّبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم؛ فإنّهم هم السّابقون، فقد تكلّموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر، وقد قصّر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وإنّهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم. كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير- بإذن الله- وقعت، ما أعلم ما أحدث النّاس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة، هي أبين أثرا، ولا أثبت أمرا، من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهليّة الجهلاء، يتكلّمون به في كلامهم، وفي شعرهم، يعزّون به أنفسهم على ما فاتهم، ثمّ لم يزده الإسلام بعد إلّا شدّة، ولقد ذكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون، فتكلّموا به في حياته وبعد وفاته، يقينا وتسليما لربّهم، وتضعيفا لأنفسهم، أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدره، وأنّه مع ذلك لفي محكم كتابه: منه اقتبسوه، ومنه تعلّموه. ولئن قلتم: لم أنزل الله آية كذا؟ ولم قال: كذا؟ لقد قرأوا منه ما قرأتم وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك: كلّه بكتاب وقدر، وكتبت الشّقاوة وما يقدّر يكن، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرّا ولا نفعا، ثمّ رغبوا بعد ذلك ورهبوا» ) * «١» .

١٣-* (قال عبّاد بن عبّاد الخوّاص الشّاميّ رحمه الله تعالى-: «اعقلوا، فالعقل نعمة، فربّ ذي عقل قد شغل قلبه بالتّعمّق فيما هو عليه ضرر عن الانتفاع بما يحتاج إليه حتّى صار عن ذلك ساهيا، ومن فضل عقل المرء، ترك النّظر فيما لا نظر فيه. حتّى يكون فضل عقله وبالا عليه في ترك مناقشة من هو دونه في الأعمال الصّالحة، أو رجل شغل قلبه ببدعة قلّد فيها دينه رجالا

دون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو اكتفى برأيه فيما لا يرى الهدى إلّا فيها، ولا يرى الضّلالة إلّا تركها بزعم أنّه أخذها من القرآن، وهو يدعو إلى فراق القرآن، أفما كان للقرآن حملة قبله وقبل أصحابه يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه؟ وكانوا منه على منار أوضح الطّريق وكان القرآن إمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إماما لأصحابه، وكان أصحابه أئمّة لمن بعدهم، رجال معروفون، منسوبون في البلدان، متّفقون في الرّد على أصحاب الأهواء مع ما كان بينهم من الاختلاف، وتسكّع أصحاب الأهواء برأيهم في سبل مختلفة، جائرة عن القصد، مفارقة للصّراط المستقيم، فتوّهت بهم أدلّاؤهم في مهامه مضلّة، فأمعنوا فيها متعسّفين في هيآتهم، كلّما أحدث لهم الشّيطان بدعة في ضلالتهم انتقلوا منها إلى غيرها، لأنّهم لم يطلبوا أثر السّالفين، ولم يقتدوا


(١) أبو داود (٤٦١٢) ، وقال الألباني: صحيح الإسناد (٣/ ٨٧٣) .