للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. أي النّبوّة فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً* فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (النساء/ ٥١- ٥٥) . قال: فلمّا قالوا ذلك لقريش سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فاجتمعوا لذلك واستعدّوا له. ثمّ خرج أولئك النّفر من يهود حتّى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأخبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه، وأنّ قريشا قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه. قال ابن إسحاق:

فخرجت قريش، وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان، وقائدها عيينة بن حصن وحذيفة ابن بدر في بني فزارة والحارث بن عوف المرّيّ في بني مرّة، ومسعر بن رخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع. قال: وخرج عدوّ الله حييّ بن أخطب النّضريّ، حتّى أتى كعب بن أسد القرظيّ صاحب عقد بني قريظة وعهدهم- وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قومه، وعاقده على ذلك وعاهده- فلمّا سمع كعب، بحييّ بن أخطب أغلق دونه باب حصنه.

فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له، فناداه حييّ: ويحك يا كعب افتح لي: قال: ويحك يا حييّ، إنّك امرؤ مشؤوم، وإنّي قد عاهدت محمّدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلّا وفاء وصدقا. قال: ويحك افتح لي أكلّمك. قال: ما أنا بفاعل، قال: والله إن أغلقت دوني إلّا عن جشيشتك «١» . أن آكل معك منها، فأحفظ «٢» الرّجل ففتح له، فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعزّ الدّهر وببحر طام. جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتّى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتّى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد «٣» . قد عاهدوني على أن لا يبرحوا حتّى نستأصل محمّدا ومن معه. قال: فقال له كعب: جئتني والله بذلّ الدّهر، وبجهام «٤» قد هراق ماءه، فهو يرعد ويبرق ليس فيه شيء. ويحك يا حييّ، فدعني وما أنا عليه، فإنّي لم أر من محمّد إلّا صدقا ووفاء. فلم يزل حييّ بكعب يفتله في الذّروة والغارب «٥» حتّى سمح له، على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا: لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمّدا- أن أدخل معك في حصنك حتّى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب بن أسد عهده، وبريء ممّا كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

فلمّا انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخبر وإلى المسلمين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسعد بن معاذ بن النّعمان- وهو يومئذ سيّد الأوس- وسعد بن عبادة


(١) الجشيشة: طعام يصنع من البر المطحون خشنا وهو الذي يسميه الناس (دشيش) بالدال والصواب «جشيش» بالجيم.
(٢) أحفظ: أغضب.
(٣) رومة، ونقمى: موضعان على مقربة من المدينة.
(٤) الجهام: السحاب لا ماء فيه.
(٥) هذا مثل وأصله في البعير، يستصعب على سائقه فيأخذ القراد من ذروته وغارب سنامه، ويفتل هناك، فيجد البعير لذة فيأنس عند ذلك، فضرب هذا الكلام مثلا في المراوغة والمخاتلة.