الظاهر أن الأمر كان على لسان موسى، وهو كالأوامر السابقة واللاحقة. والقرية على المشهور: هي بيت المقدس أو أربحا، ولكنالم نجددليلا يؤيد هذا القول المشهور، والأمر للإباحة، بدليل عطف ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ عليه، فإن الأمر بالأكل للإباحة، وهو غير الأمر المذكور في قوله تعالى:
النهي عليه في قوله: ﴿وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾، فإن النهي فيه للتحريم وقد عوقبوا علي مخالفته بأن يتيهوا أربعين عاما، وأَمر الإباحة هنا مؤخر عن أمر التكليف في قوله: ﴿ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ﴾.
﴿فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾: أي فكلوا منها في أي مكان شئتم أكلا واسعًا: لا يقتصر على سد الجوع، وهذه نعمة كبرى، أنعم الله بها عليهم، بعد خروجهم من التيه: حيث أمرهم أن يدخلوا قرية ذات زروع وثمار، وأباح لهم أن يأكلوا من طيباتها - حيث شاءُوا - كلا واسعًا هنيئًا، بعد أن كانوا حيارى في التيه: مقصورين فيه على لون واحد من الطعام. وقد أمرهم الله أَن يدخلوها من بابها فقال: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ متطامنين خاشعين: شكرًا لله تعالى على إخراجكم من التيه، والإنعام عليكم بالاسترزاق في هذ. القرية.
كما أَمرهم أن يسألوه تعالى: العفو عن ذنوبهم الماضية فقال لهم: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ أي حِطةٌ منك با الله لخطايانا وغفرانٌ لذنوبنا. ووعدهم الله أن يستجيب دعاءهم واستغفارهم عن خطاياهم فقال: ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾: نستر لكم سيئاتكم السابقة، فلا نعاقبكم طيها ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾: ثوابًا على إحسانهم، فوق غفران خطاياهم، ولكن هؤُلاء المنكرين للنعم لم يستجيبوا
﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بما أمروا به وهو قولهم: حطَّةٌ، المفيد لطلب حط ذنوبهم وغفر انها ﴿قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ ليس فيه خضوع واستغفار لذنوبهم، إعراضا وعنادًا منهم لربهم ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾: أي فأنزلنا عليهم- لظلمهم- عذابًا من السماءَ، بسبب ما استمروا عليه من الفسق المتجدد، والخروج عن الطاعة آنا فآنا.
وظاهر قوله تعالى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ أنهم لم يشتركوا جميعًا في تبديل ماقيل لهم، بل الذين بدلوا هم الذين ظلموا.