أَجاب الله - سبحانه - عن جهالة من جهالات اليهود، حين طلبوا من محمَّد ﷺ أَن ينزِّل عليهم كتابا من السماءِ، جملة واحدة، كما أُنزِل على موسى بقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾:
أَي إِنا أَنزلنا إِليك - يا محمَّد - من المعجزات، ما يكفي لإِثبات نبوتك وصدق رسالتك والإِيمان بك، إِنزالًا مشابها لإنزالنا على السابقين من رسلنا في التحقق والثبوت، وفي أَن كل رسول جاءَ بالمعجزة المناسبة لزمانه وقومه. فلم تتحد معجزات السابقين من المرسلين في نوعها، ولا في كيفية إِنزالها. فمن المبالغة في التعنت والإِبعاد في الضلال، أَن يطلبَ غلاةُ اليهود منك ما طلبوا - مع إِقرارهم بنبوة هؤلاء الأَنبياءِ المذكورين وغيرهم - مع اختلاف معجزة كل منهم: في نوعها، وكيفية إِنزالها. ولم يكن ذلك قادحا في نبوتهم، ولا مانعا لليهود من الاعتراف بهم، فكذلك لا يقدح في نبوتك إِنزال القرآن عليك منجما.
ولكن لا غرابة أَن يسأَلوا محمدا ذلك، فقد سأل أَسلافهم موسى أَكثر من ذلك، وهو أَن يُرِيَهُم الله جهرة.
وبديء بذكر نوح ﵇ لأَنه الأَب الثاني لبني البشر - إِذ قام عمرانُ الأَرض بعد الطوفان على ذريته، وما حمله معه في السفينة، وَلِيُذَكِّرَ محمدا ﷺ بقوة احتماله، وعظم صبره. فقد صبر على أَذى قومه أَلف سنة إِلا خمسين عاما. فهو خير أُسوة له ﷺ في الصبر على الأذى، ولينذر بالهلاك الذين كفروا بمحمد ﷺ كما أَهلك قومَ نوح من قبل، بسبب رفضهم دعوته، فقد أهلك الله - بدعائه - كل من كان على ظهر الأَرض من الكافرين.
ثم جاءَ ذكر النبيين من بعد نوح جملة، ليعم كل نبيٍّ أُوحِيَ إِليه.