إِذا مرَّت تلك المدة، أَمرهم الله بجهاد الجبارين في تلك القرية، التي تعتبر عاصمة لإِقليمها، فإِذا سقطت في أَيديهم سقط إِقليمها معها. وكان موسى قد أَمرهم بدخولها بقوله: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾، ولما كان دخولها يستلزم قتال أَهلها، وهم جبناء لا يحبون القتال فلذا أَجابوه بقولهم: ﴿يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ فانظر إلى فساد عقلهم حيث تمنوا خروج الجبارين طواعية بغير قتال ليحلوا محلهم بعد خروجهم، ولما أَجابوا موسى بهذا الجواب الحقير: ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فأَصروا على موقفهم وقالوا: ﴿يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ﴾ فطلب موسى عقابهم بقوله: ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ فأَجابه بقوله: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ راجع الآيات من ٢١ إِلى ٢٦ من سورة المائدة.
فلمَّا مرَّت مدة التيه، دعاهم يوشع لقتال الجبارين بعد وفاة موسى (على الراجح) فاستجابوا له فنصرهم الله تعالى عليهم.
[موازنة بين ما في البقرة وما هنا]
جاء الأَمر هنا بالسكنى حيث قيل: ﴿اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا﴾ ولكنه في البقرة أَمر بالدخول حيث قيل: ﴿ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا﴾ ولا تناقض في ذلك، فإِن الدخول لغرض السكنى، وعطف الأَكل هناك بفاء الترتيب (فكلوا) لأَنه يكون بعد الدخول، وعطف بالواو "وكلوا" لأَن السكنى أَمر ممتد، والأَكل يكون معها لا بعدها، والواو للمعية وذكر هناك "رَغَدًا" ولم يذكر هنا، لأَن الأَكل بعد الدخول عقب النصر يكون أَلذ، أَما بعد السكنى والاعتياد على المكان، فإِنه يكون أَقل لذة فلذا لم يذكر معها، ولا تنافى بين قوله هنا: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ بتقديم القول على الدخول، وقوله في البقرة ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ بتقديم الدخول على القول، لأَن المأمور به في الآيتين