بعد أَن بين الله إِصرار أَهل مكة على الكفر بعد ما تعاقبت عليهم الضراء والسراءُ، وأنذرهم بسوءِ العاقبة حينما يفتح عليهم بابًا ذا عذاب شديد - بعد أن بين الله ذلك - جاءَت هذه الآية وما بعدها، لتذكرهم بآيات الله ونعمه فيهم، لعلهم يثوبون إِلى رشدهم، ويتجنبون بالإِيمان سوءَ مصيرهم.
والمعنى: والله هو الذي خلق لكم حينما أَنشأكم - خلق لكم - حاسة السمع لتدركوا بها المسموعات من خير أو شر، ضر أَو نفع، كما تدركون بها مختلف العلوم والمعارف في أُمور دنياكم وأُخراكم، وخلق لكم الأَبصار، لتسلكوا السبل في كون الله، وتنظروا بها الصديق والعدو والحسن والقبيح، وتدركوا آيات الجمال والكمال في كون الله، وتتعرفوا ما يصلح من الأَرزاق وما لا يصلح، وتميزوا بها شتى الأَلوان والأَحجام وغير ذلك من سائر المدركات عن طريقها، مما لا يحيط به العادّون، ولا يستقصيه الحاسبون، وخلق لكم العقول، لتحكموا بها على ما يصل إليكم عن طريق الأَسماع والأَبصار وسائر الحواس، وتوازنوا بها بين المدركات وتسوسوا بها نفوسكم ناحية الخير، وتبعدوها عن موارد الهلكة، وتبسطوا بها سلطانكم على الأَرض التي جعلكم الله خلفاءَ عليها وعلى ما فيها وما فوقها: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾.
والله تعالى يخرج الناس من بطون أمهاتهم بحواسهم خالية من الإِدراك، ولكنها صالحة له، حتى إذا ما تواردت عليها المدركات انتبهت إِليها وتدرجت في النمو شيئا فشيئا حتى تصل كل نفس إلى مستواها من الإِدراك الذي شاءه الله لها، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ