ختم الله الآية السابقة بقوله:(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليلا لما قبلها، وتمهيدا لهذه الآية وما بعدها، وإيذانا بأَن ما شرع الله من الأحكام صادر عن كمال العم والحكمة، وقد حكت الآيات السابقة صورا كثيرة من ألوان القدرة، ومظاهر التفرد بالوحدانية والملك، وقررت أن الله وحده هو الولى لخلقه، القادر على كل شيء، فاطر السموات والأرض، وأنه - تعالى - جعل من الإنسان أزواجًا ومن الأنعام أزواجًا ينتظم بها أمر الدنيا، بيده مقاليد السموات والأرض يتصرف فيها خلقًا وملكًا وإحياء وإماتة وبسطا وتضييقًا، وهو العليم بكل ما فيها ومن فيها، لا يعزب عن علمه شيء من أحوالها، ولا يعجزه أمر من أُمورها.
ثم جاءَت هذه الآية لتبين أنه - تعالى - شرع لعباده ما ينظم سلوكهم. ويقوم مسيرتهم بما جاء على لسان أنبيائه ورسله على تتابع الزمان، فقال - تعالى -: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ … ) الآية، والشارع هو الله - تعالى - المفهوم بالنص من الآيات السابقة، والمخاطب أُمة محمد ﷺ.
والمعنى: سنَّ الله - تعالى - لكم يا أُمة محمَّد وأظهر وبين من أُمور الدين وأحكامه ما سبق أَن وصى به نوحًا، والذي أوحاه إلى نبيكم، وما وصى به من جاء بعد نوح من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وأمرهم به أمرًا مؤكدًا لازما هو قوله - تعالى -: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) والمقصود به دين الإِسلام، والاستسلام لله وذلك بتوحيده وطاعته، والإيمان بكتبه ووسله ويوم الجزاء، وسائر ما يكون العبد به مؤمنًا، وإقامة الدين: معناها تعديل أركانه، والمواظبة عليه، وحفظه من أن يقع فيه زيغ أو تحريف، والإِسلام بهذا المعنى لا يختلف فيه أَحد من الأنبياءِ في أي عصر من العصور، والبدء بذكر نوح ﵇ لأنه أبو البشر بعد آدم ﵉ ولأَنه - على ما قيل - أول الأنبياء بعد آدم.
وفي تقدم ذكر الرسول ﷺ على من قبله من الأنبياء إشعار بأن شريعته ﷺ هي الشريعة المعتنى بها غاية الاعتناء، وأنه النبي الخاتم، وأن رسالته أعم الرسالات.