بين الله في الآيات السابقة أن الذين كفروا من قريش لمَّا جاءهم الرسول برسالته كذبوه وقالوا: ما هذا إلاَّ إفْك مفترى وسحر مبين، كما أنهم كانوا يصفونه بالجنون؛ وقد بين الله خطأهم بقوله: ﴿وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾ أي: أنه ليس عندهم علم عن طريق الوحى جاءهم على لسان رسول قبلك، لكي يعترضوا به على رسالتك ويردوها، وأنه كان ينبغي لهم أن يُقْبلوا عليك ويؤيدوك في رسالتك، بدلًا من تكذيبهم إيَّاك، وإعراضهم عن الكتاب الذي أيدك الله به وهو الحق المبين، في حين أنك فخرهم وعزهم، وأنت الرسول العربي الوحيد الذي جاءتهم، وجاءت هذه الآية أمرا للنبي ﷺ بمواصلة وعظهم وتذكيرهم لعلهم يهتدون، ومعلوم أن العرب - مع إشراكهم - كانوا يعتقدون أن الله هو خالقهم، وأنهم ما يعبدون آلهتهم إلاَّ لتقربهم إلى الله زُلْفى، ولهذا طلب إليهم في هذه الآية أن يخلصوا في تفكيرهم وبحثهم عن الحق من أجل الله الذي يقرون بأُلوهيته وربوبيته لأربابهم.
والمعنى: قل - أيها الرسول - لهؤلاء الكفار: ما أنصحكم إلاَّ بخصلة واحدة، هي أن تتركوا التجمع في الرأي القائم على التعصب لعقائد أصولكم، وأن تنهضوا متفرقين: اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا، فالاثنان يشاور كلاهما الآخر ويتفاهم معه؛ فإنه أعون على الوصول إلى الحق من الفكر الواحد، فإذا انقدح الرأي بين الاثنين، عاد كلاهما إلى نفسه، للموازنة والبت فيما جاءكم به محمد؛ فإنه ليس بصاحبكم هذا جنون، فقد عرفتموه بالعقل الراجح والفكر الرشيد، فلا يعقل أن يتصدى لأمر خطير تعتريه صعاب لا نهاية لها إلَّا وهو على نور من ربه، وقد أيده الله بالقرآن وسواه من المعجزات، ما محمد إلا محذر لكم قُبَيلَ عذاب شديد - هو عذاب الآخرة - فقد بعث قريبا من الساعة، قال ﷺ:"بُعِثْتُ أنا والساعة، كهاتينِ" مشيرًا إلى قربها بضم أصبع السبابة إلى الوسطى، إيذانًا