يقول تعالى مخبرًا عن نوح ﵇: إِن نوحًا أَنهى إِلى ربه - وهو العليم الذي لا يعزب عنه شيء - أَن قومه عصوه مع أَنه سلك معهم في دعوته إِلى الله الأساليب المتنوعة المشتملة على الترغيب تارة والترهيب أُخرى، ومع كل ذلك لم يتبعوه، بل خالفوه، وأَسلموا قيادهم لأَبناءِ الدنيا ممن غفل عن أَمر الله، ومُتع بأَموال وأَولاد، وهي في نفس الأمر استدراج وإِمهال وليست لتفضيل وإِكرام. لهذا قال مناجيًا ربه وشاكيًا:(رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) أي: داوموا على عصياني.
(وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا) أَي: استمروا في إِقبال ورغبة على اتباع رؤسائهم الذين أَبطرتهم أَموالهم وغرتهم أَولادهم وصار ذلك سببًا لزيادة خسارهم في الآخرة زيادة جعلتهم أَهلًا لأَن يكونوا أُسوة وقدوة لأتباعهم في الخسار، وفي أَنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الحياة الفانية على الدار الباقية، وفي وصفهم بما ذكر إِشعار بأَن الأتباع إِنما اتبعوهم لوجاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأَموال والأولاد، لا لما شاهدوا فيهم من نهج قويم يدعو إِلى اتباعهم.
(وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا): باتباعهم. قال ابن زيد: أَي كبيرًا في الغاية، ويراد به احتيالهم في الدين، وصدهم للناس عنه وإِغراؤهم وتحريضهم على أَذِيَّة نوح ﵇ ولهذا كان (كُبَّارًا) أَبلغ من (كبير) وإِذا اعتُبر التنوين في (مَكْرًا) للتفخيم زاد أَمر المبالغة في مكرهم وفي عطف هذه الجملة على جملة الصلة وهي قوله تعالى: (لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ … ) إِشارة إِلى أَنهم ضموا إلي ضلالهم إِضلال الأتباع في تسويلهم لهم بأَنهم على الحق والهدىة، وأَنهم على شيء نافع. روي أَن بعض الأعراب الجفاة سمع رسول الله ﷺ يقرأ هذه الآية فقال: ما أَفصح ربك يا محمد.