حكت الآيات السابقة على هذه الآيات أحوال مشركى مكة، وما كان منهم من معارضة دعوة النبي ﷺ وتورطهم في العناد وإلحاق العذاب بالمؤمنين، وتماديهم في ذلك حتى استحقوا ما وقع عليهم من عذاب أَليم، بدخان مبين غشيهم من كل صوب وناحية، واضطرهم أَن يلجئوا إلى الرسول ﷺ ليدعو لهم برفع العذاب عنهم فقد آمنوا وتابوا؛ وقد كشف الله عنهم العذاب قليلا، وهو عليم بحقيقتهم. وسوء طويَّتهم إمهالًا لهم إلى الانتقام الأَعظم والبطشة الكبرى يوم القيامة إِن أَصروا على كفرهم ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ﴾ وجاءت هذه الآيات تقرِّر أن فتنة مشركى مكة لم تكن بدعا من النفوس البشرية ولا حَدَثا فريدًا في الطبيعة الإنسانية، وإنما جرت فيهم على سنن ما جرت عليه في قوم فرعون وغيرهم من الأُمم السابقة.
والمعنى: ولقد امتحنا واختبرنا قبل مشركى مكة قومَ فرعونَ بإرسال موسى ﵇ إليهم فلم يكن منهم إلاَّ التمرد والعصيان، وأَصل الفتنة: وضع المعدن في النار وَصَهْرُه لِتُعرف جودته وينفى خبثه، أَي: عاملناهم معاملة المختبر الممتحن ليظهر حالهم، وتتضح حقيقتهم، فأمهلناهم، ووسعنا عليهم في الرزق ووفرة النعمة، فيكون معنى الفتنة ما يفتن به الشخص ويغترَّ به فيصرفه عما فيه صلاحه، كما في قوله - تعالى -: ﴿أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ (١) ومعنى ﴿وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ أي: وشاهدوا من دواعى التذكر، وموجبات الاتعاظ ما يوجب السمع والطاعة حيث جاءَهم موسى ﵇ وهو كريم على الله، كريم في نفسه، متصف بالخصال الحميدة، والصفات الجليلة حسبًا ونسبًا،