للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فقد عرفوه بالصادق الأَمين والمفكر السليم، ولم يسبق منه ما يقتضي وصفه بخلاف ما عرفوه به، فكيف أجازوا لأَنفسهم وصفه بالجنون، بعد أن جاءهم بالهدى والبينات من ربه؟ إِن هذا لشئ عجاب، فقد صاحبوه أربعين سنة قبل البعثة عرفوه فيها بسلامة العقل وصدق الحديث، وبما أن وصفه بالجنون صادر عن حقد وحسد دون تدبر ودون إنصاف فلذا أنكره الله عليهم، وخصه بكونه منذرا ومبلغا لهم عن ربهم بقوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾: أَي ما محمَّد إلا محذر ومخوف من عقاب الله مُبين شرع الله بالحجة الواضحة والبرهان الصادق.

ثم وجه الله تعالى أَنظارهم إِلى ما في الكون من آيات مرئية تثبت قدرته تعالى وحكمته في إرسال الرسل لتصحيح عقائدهم الباطلة، والسير بهم إِلى ما يوصلهم إِلى نعيم الآخرة التي أَنكروا مجيئها، وكذبوا بالبعث بعد الموت فقال تعالى:

١٨٥ - ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ … ﴾ الآية: أَي أعَمُوا عن التدبر فيما بين أَيديهم من آثار قدرته تعالى، ولم ينظروا نظر اعتبار وتدبر فيما يشاهدونه في عالم السموات، وعالم الأَرض، وفي مخلوقات الله جميعًا ﴿وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾: أَي أَغفلوا كذلك ولم ينظروا إِلى انتهاء حياتهم بالموت الذي يقتربون منه يوما بعد يوم ولحظة بعد لحظة فيقطع عليهم آجالهم وآمالهم قال تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ في غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ (١).

وفي هذا حث أَكيد على المبادرة إِلى التدبر فيما يرشدهم ويردهم إِلى الصواب، ويردعهم عما هم فيه من ضلال قبل ذوات الأَوان بحلول الموت الذي يعقبه الثواب والعقاب.

﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾: أَي وإِذا لم يؤمن هؤلاء بالله ولم يصدقوا بالقرآن الكريم فبأَى حديث بعد القرآن يصدقون؟ - ولا حديث أَصدق منه -، فقد اشتمل على ما يحقق سعادة العباد في الدنيا والآخرة، فقد كثر فيه الحديث عن ثواب الطائعين ترغيبا في الطاعة، كما أَنذر العصاة كثيرًا ليقوِّم اعوجاج العاصين، قال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾.

١٨٦ - ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ … ﴾ الآية: أَي - من يوقعه الله في الضلال الذي اختاره فلا يجد هاديا يهديه من دون الله لأَنه وحده يهدى من يشاء ويضل من يشاء


(١) الأنبياء: الآية ١