ثم انتقل القرآن الكريم يحكى ما ارتكبوه من جرائم استوجبوا بها ما مر، من الأَمر بجهادهم والغلظة عليهم فيه، ودخول جهنم في الآخرة فقال تعالى:
٧٤ - ﴿يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا … ﴾ الآية.
روى أَن رسول الله ﷺ أَقَام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمعه من كان منهم معه، فقال الجلاس بن سويد لئن كان ما يقول محمَّد حقا لإِخواننا الذين خلَّفْناهم - وهم ساداتنا وأشرافنا - لنحن شر من الحمير، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فاستحضره فحلف بالله ما قاله، فنزلت الآية فتاب الجلاس وحسنت توبته.
والمعنى: يقسم هؤلاءِ المنافقون بالله أنه ما صدر عنهم ما نسب إِليهم من القول السَّيَّىِء والنطق بكلمة الكفر، وهُمْ كاذبون في دعواهم حانثون في يمينهم، ولهذا كذبهم الله قائلا: ﴿وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ﴾:
أَي: ولقد صرحوا بكلمة تدل على كفرهم الذي كتموه وتفضح نفاقهم، إِذ قالوا لو كان ما يقوله محمَّد في حق إِخواننا حقا لنحن شر من الحمير، وأعلنوا ما خبأُوه في قلوبهم من الكفر بعد أَن قالوا كلمة الإِسلام بأَفواههم.
﴿وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾:
أَي وهموا بفعل ما لم يصلوا إِليه ولم يقدروا عليه من قَتْل النبي ﷺ وذلك أَن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادى إِذا تَسنَّم العَقبَة بالليل، فأَخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة يسوقها فبينما هما كذلك إِذ سمع حذيفة بوقع أَخفاف الإِبل وقعقعة السلاح، فقال: إِليكم يا أَعداءَ الله، فهربوا. وقيل هموا بإِخراج الرسول والمؤمنين من المدينة، أَو بأَن يُتَوِّجوا عبد الله ابن أُبَىٍّ ملكا عليها فأَحبط الله مُؤَامرتهم.
أَي وما حَمَل هؤلاءِ المنافقين والكفار على بغض الرسول والذين آمنوا معه وكراهتهم لهم - ما حملهم على ذلك - شيء يستوجب البغض والكفر، بل المحبة والإِيمان، فقد كانوا قبل قدوم النبي ﷺ إِلى المدينة في غاية من ضنك العيش وشدة الحياة