والمعنى: أَن هؤلاءِ الكفار لم يحكموا على القرآن بأَنه مفترى من دون الله بمقتضى برهان يؤدى إِلى ما ذهبوا إِليه، بل كذبوا بكتاب عظيم من غير إِحاطة بعلم ما فيه ولا تدبر لمعانيه، ولا وقوف على ما جاءَ به من الأَدلة الشاهدة بصدقه، من تشريع حكيم، وآداب وحكم عالية، وغير ذلك من أَسرار إِعجازه، ولم يأْتهم بَعْدُ تأويل ما فيه من الإِخبار بالغيوب حتى يتبين لهم أَنه صادق وليس بكاذب، أَو المعنى: ولم يبلغ أَذهانهم ما فيه من المعانى الدالة على عُلوِّ شأْنه. والمقصود: أَن القرآن آية كبرى على صدق الرسول صلى الله علية وسلم، ولكنهم سارعوا بالتكذيب قبل أَن يتدبروا نظمه ويتفحصوا معناه والتعبير بلفظ (لَمَّا) المفيدة لوقوع تأْويله مستقبلا، للإيذان بأَنهم لو تريثوا ولم يسارعوا بالتكذيب، لأدركوا تأْويله، وعرفوا فضائله ومعانيه السامية، ولتحققوا من صدقه.
أَي مثل هذا التكذيب الناشئِ عن عدم التدبر كذب الذين من قبلهم رسلهم، فكلما جاءَهم رسول بما لا تهوى أَنفسهم كذبوه، وكان هذا سببًا في أَن حل بهم جزاءُ ما كانوا به يستهزئون، فكانوا سلفًا ومثلا للآخرين، يعتبر به كل عاقل، فانظر يا محمد أنت وأُمتك والناس جميعا مآل الظلم والظالمين، وصدق الله إِذ يقول: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (١).