ما تقول أَم باطل، فإِن عيسى كان يحيى الموتى، ولست بأَهون على الله منه، فأَنزل الله هذه الآية والآيات التي قبلها للرد عليهم.
والمعنى: ولو أَن أَيَّ قرآنٍ تسير به الجبال وتزول عن أَماكنها حين يقرأُ عليها، أَو تقطع وتُشَقَّقُ به الأَرض أَنهار وعيونا تروى بمائها الأَرض بعد إِزالة جبالها، أَو تكلم به الموتى لتصبح أَحياءَ، لكان الذي يحدث عنده كل هذا هو القرآن الذي أَنزله الله علىّ لأُبلغكم إِياه، لانطوائه على بيان عجائب قدرة الله وعظيم جلاله، ولأَنه كلام الحق سبحانه، الذي يقول للشئِ "كن فيكون" ولكن القرآن لم ينزل ليحقق لكم بذاته هذه المطالب الكونية من الينابيع وتسخير الرياح وغيرهما، بل نزِل ليرشدكم إِلى وسائل تحقيقها، ويعلمكم بذل الجهد العقلى والعملى لكي تحصلوا عليها، فإِن العالم الأَكبر ينطوى في الإِنسان بعقله وذكائه وقدرته وقواه التي أَودعها الله فيه.
وليعلم العاقل أَن الهدف الأَول للقرآن هو معرفة الله وأَداءُ واجبابه، والعمل للدنيا والآخرة، فقد مضى الزمن الذي كان يرتزق فيه الكسالى من دعاءَ أَنبيائهم، حيث كانوا يحصلون به على المن والسلوى ونحوهما، ويحصلون على الماء بالمعجزات، وجاءَ الزمن الذي يبرز فيه المولى سبحانه خيرات الأَرض والماءِ والهواءِ والطاقة بجهد الإِنسان وعرقه، واستخدام الطاقات التي أَودعها الله فيه، وهذا ما عني القرآن بتوجيه البشر إليه، كما في قوله تعالى "فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ". وقوله:"وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ"."وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وفِي السَّمَاءِ رِزْقكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ". وقوله:"وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" وقوله: "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" وقوله "فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ".
وغير ذلك من الآيات التي تحض على النظر والاستنباط، والانتفاع بخيرات الله ونعمه بالجد والاجتهاد والكدح.
ومن أَجل هذا المنهج السديد الذي رسمه القرآن لأُمة القرآن، امتلك المسلمون مفاتيح العلم، وتمكنوا من ولوج أَبوابه إِلى معاقد العز والرفعة والمجد في كل ناحية من نواحى الكرامة، والأُمم من حولهم يغطون في سبات عميق، وينتظرون موائد تنزل لهم من السماءِ، أَو يفسدون في الأَرض بغير الحق.