والمعنى: إِن أحسنتم يا بنى إسرائيل بعودتكم إلى طاعة ربكم، كانت منفعة هذا الإحسىان لكم، حيث يثيبكم عليه فى الدنيا النصر والثراء وكثرة الأولاد، وإِن أَسأْتم بالبغي والطغيان والاستعلاء، كانت مضرة هذه الإساءة عائدة عليكم، وقد عرفتم هذا الدستور الإلهي، فيما تناوب عليكم من الضراء أولا بسبب إفسادكم الفظيع أَول مرة، والسراء ثانيًا حينما تبتم إِلى الله، وعرفتم طريق الصلاح والاستقامة.
فإذا جاء عقاب المرة الآخرة من الإفساد والاستعلاء الكبير على الناس، بعثنا عليكم يا بنى إسرائيل عبادًا لنا أقوياء أشداء لكي يعاقبوكم على المرة الثانية من الإفساد، وليظهروا بهذا العقاب العنيف آثار المساءَة الشديدة على وجوهكم من الحزن والخوف والرعب، والصفرة والحيرة -فإن الأعراض النفسية تتجلى آثارها واضحة على الوجوه- وبعثناهم أَيضًا ليدخلوا المسجد الأقصى -بيت المقدس- بالسيف والقهر والغلبة والإذلال كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ويهلكوا ما علوْه وغلبوه واستولوا عليه تتبيرا وإِهلاكا شديدًا لا يوصف واختلف فى المبعوث لعقاب بنى إِسرائيل فى هذه المرة، فقيل هو الإسكندر وجنوده، وقيل هو ملك من ملوك الطوائف اسمه "بيردوس"(١)، وهؤلاء الملوك ظفروا بعد أَن استولى الإسكندر على الفرس وقتل "دارا" ملكهم، فقامت من بعده دولة ملوك الطوائف، وعددهم يربو على سبعين ملكا، ومدة ملكهم خمسمائة واثنتا عشرة سنة وكانت هذه العقوبة على قتلهم نبيهم يحيى ﵇، وكان بين عقوبة بختنصر لهم وهذه العقوبة نحو سبعمائة وخمسة وثلاثين عاما، وبينها وبين قتل الإسكندر لدارا نحو ثلاثمائة سنة، وقيل غير ذلك، انظر الآلوسي.
وقال بعض العلماء الأجلاء: إِن معرفة الأقوام المبعوثين بأعيانهم وتاريخ بعثهم وتعيين سبب العقوبة مما لا يتعلق به كبير فائدة، إذ المقصود أَنه لما كثرت معاصي بني إسرائيل، سلط الله عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أُخرى: اهـ.