استدراجًا لهم، فكان هذا الاستدراج بالنعمة كأنه أَمر لهم بالفسق، ففسقوا فيها فحق الوعيد بتعذيبهم فدمرناها تدميرا.
والمعنى الأول، أوضح وأظهر، وأساسه ما نقل عن ابن عباس ترجمان القرآن من أَن المراد بأمر مترفيها أمرهم بالطاعة، ولذا قال تعالى في مقابله: ﴿فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ أَي قابلوا الأمر بالطاعة بالفسق.
١٧ - ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾: والقرن زمان طويل، وأشهر الأقوال فيه أنه مائة سنة، وقد جاءَ في حديث أنه ﷺ (دعا لرجل فقال:"عِش قرنًا" فعاش مائة سنة) ويجمع القرن على قرون والمراد منها أهلها لاقترانهم في زمان واحد.
والمعنى: وكثيرا ما أَهلكنا من الأمم المقترنة، كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ممن جاءوا بعد قوم نوح واستأصلناهم كما استأصلنا قوم نوح، وقد قصصنا عليك يا محمد أخبار بعضهم، ولم نقصص أَخبار غيرهم وكان إِهلاكهم لكفرهم وتكذيبهم لرسلهم، وكفى بربك بذنوب عباده الخفية والظاهرة خبيرًا بصيرا، أي عالمًا بدقائقها محيطًا بتفاصيلها فيعاقبهم عليها، فلا تبتئس يا محمد بما صنع قومك معك، فسوف نعاقبهم كما عاقبنا من قبلهم إِن أصروا على كفرهم، وإِنما قال من بعد نوح ولم يقل من بعد آدم، لأن نوحًا أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم الله بعذاب الطوفان، ولظهو رحال قومه لم يذكروا ضمن الأمم المهلكة، على أن ذكره رمز إِليهم وإِلى ما حدث لهم وقدم "خبيرًا" على "بصيرًا" لتقدم متعلقه من الاعتقاد والنِّيات تقدمًا وجوديًا ورُتبيًا، فإِنها مبادئ الأعمال الظاهرة قال ﷺ:"إنَّمَا الأعمَالُ بالنيات" الحديث.