ذلك أَن العبد الصالح لم يعرِفْ موسى ﵇ إلا بعد أَن عرفه موسى بنفسه حين التقيا بمجمع البحرين وقال له العبد الصالح: أَنت موسى نبى بني إسرائيل؟ قال: نعم، كما في حديث الصحيحين - ولو كان يعلم من الغيب غير اللمحات التي أطلعه الله عليها لعرف موسى قبل أَن يسأله مستفهمًا.
وفي قصة موسى والعبد الصالح: فضل الرحلة في طلب العلم، واحتمال مشاق الأسفار في طلبه؛ وفيها تواضع المتعلم للمعلم، ولو كان المتعلم أَفضل من معلمه؛ وفيها صبر العالم ورفقه بمن يعلِّمه، وتنبيهه إِذا غَفَل، وتحذيره أَن يعود إلى مثل ما غفل عنه؛ وفيها أَن علم الله تعالى لا نهاية له، وأَن العالم إِذا سئل: من أَعلم الناس؟ لا يقول: أَنا، بل يرد العلم إلى الله تعالى، ولو كان نبيا ورسولًا من أولى العزم … وسيأتي بيان مأخذ ذلك في هذه القصة.
(٥) والقصة الخامسة: قصة ذي القرنين، وقد مكن الله له في الأرض وآتاه من كل شيءٍ سببا فساح في الأرض، واستعان بهذه الأسباب على بسط سلطانه بالعدل والإِحسان، حتى بلغ مغرب الشمس ثم مشرقها - في رأْى العين - ودعا إِلى الله في كل رحلة يرحلها. وكان غياثا للمظلومين وعونا لهم، وكان مثلًا صالحا في كل أَقواله وأَعماله وهدايته إلى الخير، حتى فتح الله به مغاليق الأمور، وأَصلح كثيرا من الفساد في الأرض. ثم كان من آيات الله على يديه أن أقام سد يأجوج ومأجوج بين جبلين مرتفعين ارتفاعا عظيما، وهنالك وجد ﴿قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا﴾ (٩٣) استغاثوا به من فساد يأجوج ومأجوج وإغاراتهم التي لا تنقطع: فبنى لهم هذا السد الحصين المنيع، دون أَن يأخذ منهم أَجرا، قائلا: ﴿مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ (٩٥). وهذا مثال من المُثُل العليا في التعاون على البر والتقوى، ابتغاءَ وجه ربه الأعلى. ولما أَتم الله على يدي ذى القرنين بناء هذا السد الحصين المنيع، الذي عجزت يأجوجُ ومأجوجُ أَن يعلُوه، لعظم ارتفاعه وملاسته، أَو ينقبوه، لعظم تخانته وصلابته - لما أتم الله ذلك على يديه - حمد الله وشكره قائلًا.: ﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ (٩٨)