"خُلِقَت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار" وهذا ظاهر في أنه ليس منهم بل كان معهم ومعتبرا في عدادهم لوجوده بينهم، ولذا قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أَبي حاتم: "قاتل الله أَقوامًا زعموا أَن إِبليس من الملائكة والله يقول: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنبارى في كتاب الأضواء وأَبو الشيخ في كتاب العظمة أَنه ما كان إِبليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجن كما أن آدم ﵇ أَصل الإِنس.
ولكون إِبليس عليه اللعنة من الجن، وليس من الملائكة استكبر فاستحب العمى على الهدى، وتنكب الطريق.
﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾: أي فخرج عن طاعته سبحانه - قاله الفراءُ، وأصله مِنْ فسق الرطب إذا خرج عن قشره، وقيل معناه فاسقا كافرا بسبب أمر ربه. بمعنى أَتاه الفسق لما أمر فَعَصَى: فعن للسببية، وقيل ففسَق عن رَدِّ أمر ربه بخروجه عن الطاعة، ففي الكلام مضاف مقدر والفسق يقع على القليل والكثير من الذنوب، ولكن تُعُورف فيما كان كثيرا، وهو أَعم من الكفر.
وذُكِرتْ قصة إبليس هنا لتشديد النكير عليه والتنفير منه، تبعيدا عن المعاصي، وعن امتثال ما يوسوس به، وذلك لا يعد تكرارا مع ذكرها قبلُ، حيث إِن لها فائدة غير الفائدة التي كانت لذكرها قبلا وهي أنه سبحانه لما ذكر يوم القيامة والحشر، وذكر خوف المجرمين ورهبتهم مما سُجِّل في كتبهم من كل صغيرة أَو كبيرة، ناسب الإتيان بها تذكيرا لهم بأن إِبليس اللعين هو الذي حملهم على المعاصي، واقتراف الآثام، واتخاذ الشركاء والأنداد، فهم في ذلك تابعون لتسويله وإغرائه كما ينبئُ عنه قوله تعالى:
﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾: بهذا الاستفهام وبَّخ الله المشركين وأنكر عليهم بعد علمهم بقبائح الشيطان وأباطيله أَن يستجيبوا له فيتخذوه وذريته أولياء وأعوانا لهم من دونه. مع أنهم لا يجهلون حالهم من العداوة والبغضاء لهم، والمراد من ﴿ذُرِّيَّتَهُ﴾ أَعوانه وأشياعه ممن سلك طريقه في الإضلال والإفساد مِنْ شياطين الجن والإنس، وقال ابن عطية في قوله: ﴿وَذُرِّيَّتَهُ﴾ ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسي