روى الترمذي عن ابن عباس ﵄ أن حُيَيَّ بن أخطب قال: في كتابكم: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ ثم تقرءُون: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ومراده الاعتراض بوقوع التناقض في القرآن الكريم، بناء على أن الحكمة هي العلم فكيف يكون العلم في القرآن شيئًا قليلًا في آية، وخيرًا كثيرًا في آية أخرى، وقد غفل هؤُلاء اليهود، عن أن الشيء الواحد قد يكون قليلًا في حالة، وكثيرًا في حالة أخرى فالآية جواب عن اعتراضهم بالإشارة إلى أَن القلة والكثرة من الأمور الإضافية، فيجوز أن يكون الشيءُ كثيرًا في نفسه، وهو قليل بالنسبة إلى شيءٍ آخر، ولا شك أن التوراة ليست كل كلام الله تعالى، بل هي بعض قليل منه، ويكفى في كتابتها مداد قليل، أما كلامه تعالى الشامل للتوراة وغيرها من شئون الكون فكثير لا يكفي في كتابته مداد البحر.
ومعنى الآية: قل لهم أيها الرسول: أو كان ماءُ البحر مدادًا للقلم الذي تكتب به كلمات ربي في التشريع والتكوين وغيرهما، لنَفِدَ هذا المداد وفَنِىَ قبل أن تنفد كلمات ربي وتفنى، ولو جئنا بمثل هذا الماء العظيم مددًا وعونًا، لأن جميع ما في الوجود علي التعاقب والاجتماع - مُتَنَاهٍ، وعلم الله وكلماته لا تتناهى، والمتناهي لا يفي ألبتة بغير المتناهى.
والمراد أن كلمات الله تعالى لا يعتريها فناءٌ ولا نقص، وعلمه لا غاية له ولا نهاية، فما علم العباد جميعًا بجانب علمه ﵎ إلاَّ كقطرة من ماء البحور كلها. وفي معنى الآية الكريمة قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (١). ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بنحو ما بدأها به من البشارة والنذارة فقال:
أي قل أيها الرسول للمشركين وللناس جميعًا: إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم، لا أدعى الإحاطة بكلماته جل وعلا، ولا أعلم إلَّا ما علمنى ربي، وقد أوحى إلى أنما إلهكم الذي يجب أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا هو إله واحد لا شريك له.
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾: أي فمن كان يأمل تكريم ربه إياه بالثواب وحسن الجزاء عند لقائه، فليعمل عملًا صالحًا موافقًا