القصى الذي انتبذت به، فلما رأوها ومعها الصبى، حزنوا حزنًا شديدًا، وأعظموا أمرها، واستنكروه بقوة، وعلت أصواتهم محزونين.
﴿قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا﴾: أي ثميئًا مختلقًا مُفْتَرًى، وفي البحر أن الفَرِىَّ يستعمل في العظيم من الأمر شَرًّا أَو خيرًا، قولًا أَو فعلا، ويراد به هنا كونه أمرًا خطيرًا، جديرًا بكل إِنكار …
الآية استئناف قصد به تجديد تعييرهم لها، وسخريتهم منها، وتأْكيد توبيخهم إياها لِمَا ضيعته من أمجاد أهلها، وليس المراد هارون أخا موسى بن عمران ﵉ لما بينهما من سنين طويلة، وإِنما هو رجل صالح في بني إِسرائيل وكان هذا الاسم يشيع فيهم لأنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين فيهم، فكأنهم قالوا لها: يا أُخت هذا الرجل في الصلاح والتقوى في أول أَمرك، كيف انتهيت إلى فعل هذه الخطيئة؟! وقيل: هو رجل فاسد شبهت به شتمًا لها: وقيل المراد به هارون أخو موسى ﵉، أَخرج ذلك ابن أَبي حاتم عن السدى وعلي بن أَبي طلحة، ووصفت بأخوتها له؛ لأنها كانت من نسله، كما يقال يا أخا العرب لمن كان منهم، والتوجيه الأول أصح، ففي مسلم عن المغيرة بن شعبة قال: لما قَدِمْتُ نجران سألوني فقالوا: "إنكم تقرءُون يَا أخْتَ هَارُونَ" وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قَدِمتُ على رسول الله ﷺ سألته عن ذلك فقال:"إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصلحائهم".
ومعنى هاتين الآيتين، كيف تأْتين هذا الأمر العظيم، وقد عُرِفتِ بالصلاح والتقوى كما عُرِفَ بها هارون، وأَبوك لم يكن امرأَ سوء يتصف بِشَرٍّ أو فساد، وما كانت أمك منحرفة فاجرة، بل أنت في ماضيك البعيد والقريب من بيئة لا ينبغي أن تُنْبتَ إِلا الطيبين الطيبات، وفي ذلك إِشارة إلي أَن ارتكاب الفواحش من أَولاد الصالحين أفحش من ارتكابه ممن سواهم وتنبيه على أَن الفروع غالبًا ما تكون زاكية إِذا زكت الأصول، وتكون خبيثة إِذا لم تكن أصولها كذلك.