ووجه التوكيد أنه سبحانه نسب التنزيل إِلى ذاته المقدسة مرتين، مرة بضمير المتكلم في قوله: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ ومرة بضمير الغيبة في قوله:
﴿تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ … ﴾ وإنما نسب التنزيل إلى ذاته المقدسة مرتين، تعظيمًا لشأن المنزل ﷻ وتفخيمًا لشأن القرآن الذي أنزله، وقطعًا لريبة المرتابين في كونه منزلًا من عند الله.
والاقتصار هنا على خلق السماوات والأرض؛ لأنه سيُصَرّح بخلق ما فيهما وما بينهما وما تحت الثرى في الآية السادسة. وتقديم خلق الأرض هنا؛ لأن الأرض أَقرب إلى الحسِّ، والإنعام بها على الناس أَظهر، ووصف السماوات بالعلَى - جمع للعليا - لتوكيد الفخامة، مع ما فيه من رعاية الفواصل. ثم وصف عظمته تعالى وعظمة ملكه فقال سبحانه:
٥ - ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾:
وعرش الرحمن ﷻ أعظم مخلوقاته، ولا يحيط بوصف عظمته إِلا ربه، ومن العرش تَتَنزَّل أَوامر الله في شئون الكون كله، دون أن يكون الله فيه، لاستحالة ذلك عقلا.
واستواؤه تعالى على العرش من قبيل المتشابهات التي يجب الإيمان بها وتفويض علم المراد منها إلى الله جل وعلا، وترك تأويلها مع تنزيهه تعالى عن مشابهة الحوادث وهذا مذهب جمهور أهل السنة، وفي ذلك يقول الإمام مالك: الاستواءُ معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والجحود كفر، والسؤال عنه بدعة.
ومن العلماء من فسر الاستواء على العرش بأنه كناية عن انتهاء تدبير الكون إلى الله ﷾، بعد إِتمام خلقه إياه، دون أَن يشركه في هذا التدبير شريك، كما لم يشركه من قبل في إِبداعه شريك.
وإنما أُضيف لله تعالى الاستواءُ على العرش وحده مع أنه سبحانه مستوٍ على الكون كله، لأن العرش أعظم مخلوقاته، فإذا استوى عليه وهو أَعظمها فقد استوى على كل ما سواه،