المعنى: وأَلق يا موسى عصاك، وعبَّر عنها هنا بقوله سبحانه: ﴿مَا فِي يَمِينِكَ﴾، إِما تصغيرًا لها، فكأنه قيل له: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العود الصغير الجرم الذي في يمينك، وإِما تهويلًا لأَمرها وتفخيمًا لشأنها، وإشعارًا بأَنها ليست من جنس العصى المعهودة، لما لها من آثار عظيمة، وأَفعال غريبة، فكأَنه قيل له: لا تحفل بهذه الأَجرام الكثيرة الكبيرة، فإِن ما في يمينك أعظم منها، وهذه على كثرتها أضعف منها، فأَلقها يا موسى: ﴿تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ﴾: أَي إن تلقها تقلف الذي صنعوه من حبالهم وعصيهم التي تسعى، لأن الله يحولها إلى تنِّين عظيم، أي حية هائلة، تبتلع ما ألقوه بسرعة فائقة، والتعبير عما أَلقوه بقوله: ﴿إِنَّمَا صَنَعُوا﴾ للإشارة إلى أَن ما شوهد من سعيها، إنما هو من تمويههم وصنعهم الذي هو كيد ساحر قصد به فتنة الناس وإضلالهم، والتمكين لفرعون وحكمه، وليست له حقيقة: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾: أَي ولا يقدر ولا ينجو حيث جاء، وأَين أَقبل وحيث احتال.
حينما عاين السحرة ما حدث بعد إِلقاء موسى عصاه، وشاهدوه مشاهدة إِمعان وتأَمل، علموا علم اليقين أن ذلك معجز وليس من قبيل السحر والتمويه، وإِنما هو حق لا شك فيه، ولا يقدر عليه إلَّا الذي يقول للشيء كن فيكون، لأنه بمعزل عن السحر الذي استفرغوا جهدهم للإحاطة بفنونه، وطرقه وكل وجوهه، وأدركوا أنه فوق قدرة البشر، حيث تأَكد لهم أَن الله سبحانه هو الذي غيَّر مادة العصا إلى ثعبان عظيم أَباد حبالهم وعصيهم أَصلا وصورة، ولو كان ما صنعه موسى سحرا لبقيت الحبال حبالا والعصى عصيا بعد أن أبطلت العصا سحرهم فيها، ولما وَقَرَ هذا في قلوبهم اتجهوا إلى موسى فوقع كل منهم على وجهه ساجدًا لله إِعلانًا لتوبته وإِيمانه بالله وبرسالة رسوله موسى ﵇، حيث: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾ وكفرنا بفرعون وبما يدعونا إِليه، قال ابن عباس وعبيد بن عمير:"كانوا أَول النهار سحرةً، وفي آخر النهار شهداءَ بررة ": فقد قتلهم فرعون بعد إِيمانهم بموسى كما سيجئُ بيانه، وعن عكرمة: لما خَرُّوا سجدًا أَراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة، وقد اختلف العلماءُ في عددِهم. فمنهم من أَنهم إِلى ثمانين أَلفا، كمحمد بن كعب، ومنهم من قال: إِنهم سبعون ألفًا كالقاسم