﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾: أي لا أحد أَسرع وأدق حسابًا منا، فنحن نحصى على كل عامل ما قدمه من خير وشر، أَسَرَّ به أَو جهر، صَغُر أَو عَظُم، ثم نجزيه بالعدل والقسطاس المستقيم، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (١). قال أحمد بسنده عن عائشة ﵂: "إن رجلًا من أَصحاب رسول الله ﷺ جلس بين يديه فقال: يا رسول الله إِن لى مملوكَيْن يَكْذِبُونَنِى ويخونوننى ويعصوننى، وأَشتمهم وأَضربهم، فكيف أنا منهم؟ قال له رسول الله ﷺ:(بحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، إن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك عليهم، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كَفافًا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم أقتص لهم منك الفضل الذي يبقى قِبلَك) فجعل الرجل يبكى بين يدى رسول الله ﷺ ويهتف، فقال رسول الله ﷺ: مَا لَهُ؟ أَما يقرأْ كتاب الله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾؟ فقال الرجل: ما أَجد خيرًا لى من مفارقة هؤلاءِ، إني أُشْهدك أنهم أحرار كلهم. أَخرجه الإمام أَحمد بسنده عن عائشة ﵂.
لما أمر الله نبيه ﷺ أَن يقول لقومه: ما أنذركم إلاَّ بالوحى الذي يوحيه إليه، أردف ذلك ببيان أن تلك سنة الله في الأنبياء والمرسلين، فكلهم تأْتيهم شرائعهم بوحى من ربهم لتبليغ أُممهم بما أوحى إليهم.
والمعنى: ولقد أوحينا إِلى موسى وهارون - كما أَوحينا إليك يا محمد - كتابًا جامعًا بين كونه فارقًا بين الحق والباطل وكونه ضياءً يستضاءُ به في ظلمات الجهل، ودياجير الغواية وغياهب الضلال، وتذكيرًا للمتقين ووعظًا لهم، وتخصيص المتقين بذلك الشرف؛ لأنهم المنتفعون به المستضيئون بأنواره.