وأما أَصحاب الصُّفَّة الذين كانوا يقيمون في مسجد رسول الله ﷺ ولا يسعون في الأرض مسترزقين، فقد كانوا ضيفًا على الإسلام عند ضيق الحال، فكان ﷺ، إذا أَتته صدقة خصهم بها، وإِذا أتته هدية أَكلها معهم، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماءَ إِلى بيوت الرسول ﷺ كما وصفهم البخاري وغيره - ثم لما افتتح الله على المسلمين البلاد، أَخذوا بالأسباب، فأصبحوا أمراء، وهناك ناس يميلون إِلى البطالة وترك الأسباب، استنادًا إِلى قوله تعالى: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ وهذا من سوء التأْويل احتجاجًا لبطالتهم، فالمراد بالرزق هنا المطر (١) وقد تفضل الله سبحانه بضمانه للناس، لأنهم لا قدرة لهم عليه، وقد أجمع أهل التأويل على أن المراد منه ما ذكر بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَا يُنَزِّلُ لَكُم من السَّماَء رِزْقًا﴾، ولم يشاهد أَحد أَن الله تعالى ينزل على الناس من السماءِ أَطباق الخبز، ولا جفان اللحم، بل الأسباب أَصل في كل ذلك، وقد أَمر الله بالأَخذ بها في قوله جل وعلا: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ وقال ﷺ: "اطلبوا الرزق في خبايا الأرض" أَي: بالحرث والحفر والغرس، وقال أَيضًا:"لأن يأْخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خير له من أَن يسأَل أَحدا أعطاه أَو منعه".
أَما حديث "لو أنكم كنتم تَوَكَّلون على الله حق التوكل لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانا" فلا يصح الاستدلال به على البطالة مع التوكل على الله، فإِن غدوها ورواحها سبب لحصولها على رزقها، فالتوكل على الله لا ينافى الأخذ بالأسباب.
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: "كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون نحن المتوكلون، فإِذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ ولم ينقل عن النبي ﷺ وأَصحابه - رضوان الله عليهم - أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد وكانوا المتوكلين على الله حقًا، والتوكل: اعتماد القلب على الرب مع الأخذ بالأسباب في تحصيل الأرزاق، فإن السماءَ لا تمطر ذهبًا ولا فضة.
وفي ختام الحديث عن هذه الآية نقول: سأل رجل الإمام أَحمد بن حنبل، فقال: إني أريد أن أَحج على قدم التوكل، فقال: اخرج وحدك، فقال: لا، إلا مع الناس، فقال له: أَنت إذن متكل على أَجربتهم، والله تعالى أعلم.
(١) ويقول بعض العلماء إن تسميته رزقا على سبيل المجاز لأنه سببه أو يؤول إليه، فالمطر سبب الرزق من النبات والثمار واللحوم، أو يؤول إليها.