أي: لم يقتصر أمر هؤلاء الذين لم يؤمنوا بك من قومك على الإعراض والانصراف عما يأتيهم من الذكر والموعظة، بل تجاوزوا ذلك إلى التكذيب الصريح فجعلوا القرآن الكريم تارة سحرًا، وأخرى أساطير الأولين، ومرة شعرا، وقد هددهم وأنذرهم عذابًا منكرًا ينزل بهم، وقارعة تحل بساحتهم ينتشر خبرها، ويذاع أمرها، فيجمع الله عليهم بين العذاب الأليم، وكشف أمرهم بين الناس حتى يتحدثوا بما نزل بهم من نكال وخزى جزاءً وفاقًا لاستهزائهم وسخريتهم، وقد رتب الله - سبحانه - نزول العذاب على استهزائهم في قوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ … ﴾ الآية، مما يؤذن ويدل على أن العذاب واقع لا محالة، فقد أصابتهم في بدر هزيمة منكرة قتل فيها وأسر صناديدهم، ويجوز أن يراد من الأنباء: أخبار انتشار الإِسلام وعلو شأن القرآن الذي كانوا به يستهزئون.
ومن أغراض هذا الوعيد أن يترفق النبي ﷺ بنفسه فلا يشق عليها ويعرضها للهلاك أسفا وحزنًا على قوم قد أوغلوا في الكفر، وختم الله على قلوبهم فلا تنفذ إليها الهداية ولا يرجى منهم خير.
ينكر الله - تعالى - عليهم ما هم فيه من إعراض وتكذيب واستهزاء بآيات الله الكونية بعد أن أعرضوا وسخروا من آيات الله التنزيلية، أي: أفعلوا ما فعلوا، وأصروا على الكفر والتكذيب ولم ينظروا إلى الأرض وما فيها من عجائب تدعوهم إلى الإقبال على الله إيمانا وتصديقا، وتمنعهم وتزجرهم عما اقترفوه من السخرية والإعراض عن آيات القرآن الكريم - أفلم ينظروا إليها - وهي تنبت ما يفيد الناس وينفعهم من نبات يختلف صورة ومنافع.
فلو أن الأمر لطبيعة الأرض، لما أنبتت نباتا، فإنها لا عقل لها ولا تدبير ولا قدوة ولا إرادة وقوله: ﴿كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ استئناف لبيان ما في الأرض من أمور تثير العجب وتدعو إلى الإيمان بالواحد الديان، أي: أنبتنا في الأرض من كل صنف جليل النفع عظيم الفائدة، يدرك ذلك كله من أنعم الله عليه بنعمة الفهم الدقيق والإدراك السليم، وأمده ببصيرة نافذة نيرة، ويغفل عنه الغافلون فلا يعقلون.