قال الزمخشرى: وإنما فعل ذلك رغبة في المعروف، وإغاثة للملهوف؛ لأنه بعد أن وصل إلى ماء مدين وقد ازدحمت عليه أمة من أناس مختلفة متكاثفة العدد، ورأى الضعيفتين من ورائهم مع غنيماتهما مترقبتين لفراغهم فما أبطأت همته في انتهاز تلك الفرصة احتسابا على ما كان به من النصَب والجوع، فرحمهما وأغاثهما وكفاهما أمر السقي في تلك الزحمة بقوة قلبه وشدة ساعده وما آتاه الله من الفضل في متانة الخلقة، وفيه انتهاز فرصة الاحتساب وترغيب في الخير، وبعث على الاقتداء في ذلك بالصالحين، والأخذ بسيرهم ومذاهبهم.
ولما رجعت الفتاتان بالغنم إلى أبيهما أنكر حالهما بسبب مجيئهما مسرعين، فسألهما عن خبرهما، فقصَّتا عليه ما فعل موسى ﵇ فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها.
فجاءت إحدى الفتاتين مُوفدة من قبل أبيها تسير نحو موسى سير الحرائر، في حياء وخَفَر، قالت: إن أبي يدعوك ليثيبك ويكافئك على سقيك غنمنا، فلما ذهب موسى إلى والد الفتاتين وحدثه حديث، وقصَّ عليه قصصه، وما جرى له، وسبب خروجه من مصر، وتتبع القوم له واقتفائهم أثره، وشدة حرصهم على ملاقاته والفتك به، قال له: طِبْ نفسًا وقَرَّ عينًا؛ فقد خرجت من مملكتهم، ولا سلطان لهم في بلادنا وسلمت من القوم المعتدين: يريد فرعون وقومه.
وفي قول الفتاة السابق ما فيه من الدلالة على كمال العقل والحياء والعفة، وقد لبى موسى دعوة شعيب لا على سبيل أخذ الأجر على معروف بذله لبنتيه، ولكن على سبيل التقبل لمعروف قُدِّم له، وقد قص على شعيب قصصه وعرَّفه أنه من بيت النبوة، ومثله حقيق بأن يُضَيّف ويُكَرَّم، على أنه ليس بمنكر أن يقبل الأجر على خير فعله لاضطرار الفقر والفاقة.