والمعنى: ألم تعلم - أيها المكلف - علمًا يقينيا آخر تضمه إلى علمك السابق تعميقًا للإيمان، وتجسيدًا للحقائق - ألم تر وتعلم - أن السفن تجرى في البحر بنعمة الله - تعالى - وقدرته على تهيئة أسباب الجري من الريح، وانسياب الماء، وحفظ الله لها، أو بنعمة الله التي تحملها من الطعام والمتاع والأغراض؛ ليريكم رأي العين آياته الناطقة بأُلوهيته، الشاهدة بعظيم قدرته.
إن في كل ما ذكر من الآلاء والمشاهد لآيات عظيمة في دلالتها كثيرة في عددها لكل صبار كثير الصبر على البلاء، شكور عظيم الشكر على النعماء، والراد من الصبار الشكور: المؤمن. لأن الصبر والشكر عمدتا الإيمان، فقد ورد "الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر" كما أن التعقيب بهما على ركوب الفلك يُلمِع إلى مناسبة دقيقة لأن الراكب الفلك إذا كان مؤمنًا يكون غالب بين صبر عند أسباب الفزع وشكر عند أسباب الأمن.
تسير هذه الآية مع جري السفينة وتحكي أحداث البحر، فإن راكبه كثيرًا ما يكون عرضة لغضبته وثورة الموج، واهتياج الماء فيتملكه الهلع.
والمعنى: وإذا غشي ركاب البحر وغطاهم وأحاط بهم موج هائج متعالٍ كالجبال والسحب التي تعلو الرءُوس، وأحدق خطر الغرق بهم خلصت نفوسهم مما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد، بما دهاهم من الخوف الشديد فاتجهوا جميعًا إلى الله مستجيرين داعين مخلصين له الدين أن يؤمّن خوفهم ويبدد فزعهم، فلما قدر لهم النجاة، ووصلوا إلى بر السلام والأمن عاودتهم نزعات الشر، وغلبهم سلطان الهوى والضلال، وانقسموا، فمنهم مقتصد، أي: مقيم على القصد، أي: الطريق السوي وهو التوحيد، باق على الإخلاص الذي كان عليه في البحر عند الفزع، ومنهم جاحد راجع إلى كفره وإنكار فضل الله عليه، وما يجحد بآيات الله وينكرها بعد قيام البراهين عليها إلاَّ كلُّ ختَّار غدار شديد الغدر لا يذكر فضلا ولا يحمد معروفًا، كفور مبالغ في الكفر مجرد من الانتفاع بآيات الله - تعالى - وإدراك نعمه، فقوله - تعالى -: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا﴾ في مقابل ﴿فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ قائم مقام عبارة "ومنهم جاحد" مع تضمنه ذم الجاحد، والإيجاز من ألوان البلاغة.