مباشرة لما في المعاودة والتثنية من إثارة الانتباه، وتجديد التذكير، فيكون أوقع في الأسماع وأقوى في التأثير والزجر.
والمعنى: وجعلنا بين مساكن أهل سبأ وبين قرى الشام التي باركنا فيها بكثرة أشجارها، ووفرة ثمارها وخيراتها - ومياهها، والتوسعة على أهلها - جعلنا بينهم - قرى أخرى كثيرة ظاهرة متواصلة بحيث يظهر لمن في بعضها ما أمامه من الأُخرى، أو جعلناها مرتفعة على الآكام على العادة في بناه القرى المنيعة الشريفة، أو أقمنا أوضاعها على الطريق ليسهل توصل السابلة إليها ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ﴾ فجعلنا الأبعاد بين كل قرية وأخرى على مقدار معين لا يشق على المسافر قطعه، ولا يطول وقته.
قيل: من سافر من قرية صباحًا وصل إلى الأُخرى وقت الظهر والقيلولة، ومن سار من قرية بعد الظهر وصل إلى أخرى بعد الغروب إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعًا ولا عطشًا ولا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدوّ ونحوه، وقوله تعالى: ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ على إرادة القول، بمعنى أبحناها وقلنا لهم: سيروا فيها، وهذا القول إما بلسان أنبيائهم، أي قال أنبياؤهم ومرشدوهم سيروا فيها حيث شئتم، وكيف شئتم ليالي وأيامًا آمنين لا تحسُّون مشقة ولا تستشعرون جوعًا ولا عطشًا ولا ترهبون عدوا، وإما بلسان الحال. أي: يسرنا لهم السير وسهلنا أسبابه فاندفعوا فيه كأنهم مأمورون به. وعلى أي تقدير فالمعنى: سيروا فيها آمنين مطمئنين وإن تطاولت مدة سفركم، وامتدت أيامًا وليالي كثيرة، وتقديم الليل على النهار لأن الليل مظنة الخوف من المغتالين وقطاع السبيل.
المعنى: بطروا النعمة وسئموا من طيب العيش ولم يعرفوا قيمته وملوا العافية، وطلبوا الكدَّ والتعب فقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا فاجعلها مسافات بعيدة. بحيث نسير إليها على نجائبنا، ونفاخر بدوابنا ونربح في تجارتنا، وظلموا أنفسهم بما قالوا وما طلبوا وكانوا كبني إسرائيل الذين ملُّوا المن والسلوى، وآثروا الذي هو أدنى، فعجل الله لهم الإجابة بتخريب تلك القرى، ونجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب، كما يفهم