وفي ذكره بعد ما تقدم من التقرير البليغ دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى، ومن هو في الضلال المبين؛ لأن التعريض والتورية أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض وغلبة الخصم، فكأنه قال لهم: أنتم الضالون حين أشركتم بالذي يرزقكم من السموات والأرض، ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق مني ومنك، وإن أحدنا لكاذب، ومثله قول حسان - شاعر رسول الله - يخاطب أبا سفيان بن حرب، وكان قد هجا النبي ﷺ قبل أن يسلم:
أتهجوه ولست له بكفءٍ؟ … فشركما لخيركما الفداء
وخولف بين حرفي الجر الداخلين على الحق والضلال للدلالة على استعلاء صاحب الهدى، وتمكنه واطلاعه على ما يريد، كالواقف على مكان عال أو الراكب على جواد يركضه حيث شاء، بخلاف صاحب الضلال فهو منغمس، حتى كأنه في مهواة موحشة لا يدرى أين يتوجه.
المعنى: قل لهم - أيها الرسول -: لا تُسألون عما اقترفنا من آثام، وارتكبنا من ذنوب، ولا نُسأل عما تعملون من شرور ومعاصٍ وكبائر، وهذا أدخل في الإنصاف وأبلغ فيه، حيث عبر عن الهفوات التي لا يخلو عنها مؤمن مما يعبر به عن الكبائر، وأسند إلى المؤمنين فقيل: ﴿لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا﴾ وعن الكبائر من الكفر ونحوه بما يعبر به عن الهفوات، وأسند إلى المخاطبين، فقيل: ﴿وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
وذكر ابن كثير أن معنى الآية: التبرى منهم، أي: لستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى الله - تعالى - وإلى توحيده، وإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم، وإن كذبنم فنحن برآء منكم وأنتم برآءُ منا، كما قال - تعالى -: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (١).