بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله ﷺ أَن أَهل الكتاب كذبوا رسلهم، فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أَتتهم الرسل فكذبوهم، فوالله لئن أَتانا رسول لنكونن أَهدى من إِحدى الأُمم، ثم كان منهم بَعْدُ ما كان، فأَنزل الله هذه الآية.
والمعنى: حلف مشركو مكة، وبالغوا في الحلف، واجتهدوا أَن يأْتوا به على أَبلغ ما في وسعهم من جهد، لئن جاءهم رسول كما جاءَ اليهود والنصارى يدعوهم إلى عبادة الله ليكونن في تصديقه واتباعه أَهدى من كل أُمة من اليهود ومن النصارى، ومن أَية أُمة بلغت من الطاعة والهداية وحسن الاتباع أَن يقال فيها واحدة الأُمم تفضيلا لها على غيرها، فلما جاءهم نذير أَكرم نذير، وهو أَشرف الرسل محمد ﷺ ما زادهم النذير أو مجيئه إلا نفورا وتباعدًا عن الحق، وهربًا من الإِيمان به.
ترتبط هذه الآية بالآية التي قبلها وتُتِم معناها، والمعنى: ما زادهم الرسول أَو مجيئه إلا تباعدًا عن الحق استكبارًا منهم، وتجبرا في الأَرض واستعلاء وإمعانًا في الشرك، ومكر العمل السيئِ الذي يتفننون في تبييته، ويدينون به، ويندفعون فيه من الخداع والصد عن الإيمان والكيد لرسول الله، وإلحاق الأَذى به وبأَصحابه؛ ظانين أَن ذلك سيرد الدعوة، ويضعف شوكة الرسول وصحبه، جاهلين أن وبال مكرهم سينزل بهم، ويذهب بكبريائهم، ويذل استعلاءَهم وعنادهم، ولا يحيط المكر السيءُ ولا ينزل عقابه إلا بأَهله الذين دبَّروه وبيتوه، ومن أَمثال العرب:"من حفر لأخيه جُبًّا وقع فيه منكبا" وعن كعب أنه قال لابن عباس: قرأْت في التوراة: "من حفر مَغْواةً وقع فيها" قال: وَجَدْتُ ذلك في كتاب الله، فقرأَ الآية.
وفي الخبر: "لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا، فإن الله - تعالى - يقول: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾: ولَا تبغوا ولا تعينوا باغيا، فإن الله - تعالى - يقول: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ وقد حاق مكر هؤُلاء بهم يوم بدر، والأُمور بعواقبها ووراءَ الدنيا الآخرة، وصدق قول الله - تعالي -: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ﴾ أَي: ما ينتظرون إلا سنة الله - تعالى - فيهم